الثلاثاء، 19 نوفمبر 2013

نواقض الإسلام في ميزان الكتاب والسنة

نواقض الإسلام

في ميزان الكتاب والسنة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وإمام المرسلين، وعلى آله وأصحابه وإخوانه أجمعين.

أما بعد، فهذه نظرات استدلالية مؤسسة على الكتاب والسنة في موضوع نواقض الإسلام، أكتبها لمن يحب أن يستبصر، سائلا المولى تعالى وضارعا إليه أن ينفع بها قارئها ويثيب كاتبها.

ـ المؤمن يؤمن بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره من الله تعالى، ويتبرأ مما يخالف ذلك، وهذا هو العقيدة الصحيحة.

ـ والإيمان هو التصديق مع إذعان النفس وقـَبولها لما وقع التصديق به، أما مجرد التصديق بدون إذعان النفس وقبولها فليس بإيمان، والإيمان بالله لا يعني مجرد التصديق بوجود الله فحسب، بل هو يقتضي الإيمان بعظمته وجلاله وعلمه وقدرته ووحدانيته في ربوبيته وألوهيته كذلك.

فتوحيد الربوبية يقتضي الإيمان بأن الله جل وعلا هو الخالق الرازق المعطي المانع الضار النافع مالك الملك، وتوحيد الألوهية يقتضي الإيمان بأن الله تعالى هو وحده المستحق للعبادة، فهو المعبود بحق دون سواه، ولا معبود بحق إلا الله، فمن لم يحقق في قلبه توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية فهو مشرك. لا أعلم في هذه الأصول خلافا.

وهذه أقوال بعض العلماء الذين بينوا توحيد الألوهية:

قال الإمام أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني المتوفى سنة ثلاث وأربعمئة في كتاب الإنصاف: "والتوحيد له هو الإقرار بأنه ثابت موجود، وإله واحد فرد معبود، ليس كمثله شيء، ويجب أن يُعلم أن صانع العالم جلت قدرته واحد أحد، ومعنى ذلك أنه ليس معه إله سواه، ولا من يستحق العبادة إلا إياه".

وقال الإمام فخر الدين محمد بن عمر الرازي المتوفى سنة ست وستمئة في تفسيره الكبير المسمى مفاتيحَ الغيب: "لأنه لا معنى للشرك إلا أن يتخذ الإنسان مع الله معبودا".

وقال: "قوله تعالى سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ: أي سبحانه عن أن يكون له شريك في الأمر والتكليف، وأن يكون له شريك في كونه مسجودا له ومعبودا، وأن يكون له شريك في وجوب نهاية التعظيم والإجلال".

وقال: "قوله إيّـاك نعبد يدل على أنه لا معبود إلا الله، ومتى كان الأمر كذلك ثبت أنه لا إله إلا الله، فقوله إيّـاك نعبد وإيّـاك نستعين يدل على التوحيد المحض".

وقال الإمام عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام المتوفى سنة 660 في كتاب العقائد: "فإن الألوهية ترجع إلى استحقاق العبودية، ولا يستحق العبودية إلا من اتصف بجميع ما ذكرناه". وقال: "ولا يستحق الإلهية إلا من اتصف بجميع ما قررناه".

وقال الإمام يحيى بن شرف النووي المتوفى سنة ست وسبعين وستمئة في كتاب المقاصد: "وأفضل الأذكار بعد القرآن لا إله إلا الله، ومعناها: لا معبود بحق في الوجود إلا الله".

وقال ابن تيمية أحمد بن عبد الحليم المتوفى سنة 728 في كتاب الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح: "والمسلمون قالوا ألا له الخلق والأمر، فكما لا يخلق غيره لا يأمر غيره، هو المعبود المطاع الذي لا يستحق العبادة إلا هو".

وقال في كتاب الرد على المنطقيين: "فلا يشهد العارف لمخلوق شيئا من الإلهية، فيشهد أنه لا خالق غيره، ويشهد أنه لا يستحق العبادة غيره، ويتحقق بحقيقة قوله إياك نعبد وإياك نستعين".

وقال السنوسي محمد بن يوسف بن عمر التلمساني المتوفى سنة 895 في شرح أم البراهين: "وحقيقة الإله هو الواجب الوجود المستحق للعبادة، والمعنى على هذا: لا مستحق للعبودية له موجودا ـ أو في الوجود ـ إلا الفرد الذي هو خالق العالم جلَّ وعلا، لأنه لا يستحق أن يُعبد ـ أي يذِل له كل شيء ـ  إلا من كان مستغنيا عن كل ما سواه ومفتقرا إليه كل ما عداه".

وقال في شرح المقدمات: "وأنواع الشرك ستة: شرك استقلال، وهو إثبات إلهين مستقلين، كشرك المجوس، وشرك تبعيض، وهو تركيب إله من آلهة، كشرك النصارى، وشرك تقريب، وهو عبادة غير الله تعالى ليقرب إلى الله تعالى زلفى، كشرك متقدمي الجاهلية". 

وقال الشيخ إبراهيم بن محمد الباجوري المتوفى سنة 1276 في حاشيته على متن السنوسية: "ومعنى الإله: المعبود بحق، وإذا كان معنى الإله ما ذكر كان معنى لا إله إلا الله لا معبود بحق إلا الله".

ـ أصل الإيمان محله القلب، وإلى هذا المعنى جاءت الإشارات القرآنية الكريمة، فقد قال الله تبارك وتعالى {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم}، وقال تعالى {قالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمَّا يدخل الإيمان في قلوبكم}، وقال تعالى {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان}.

ووردت إشارة إلى هذا المعنى في الحديث الذي رواه ابن حنبل وأبو داود وأبو يعلى وابن حبان والطبراني في المعجم الكبير عن جماعة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته".

ـ والإيمان القوي يثمر الانقياد لله جل وعلا بفعل أوامره واجتناب نواهيه، وكلما كان الإيمان في قلب العبد المؤمن أقوى كانت ثمراته أكثر وأطيب، وهي الأعمال الصالحات، ولذا جاءت مقرونة بالإيمان في قرابة خمسين موضعا من القرآن الكريم، منها قوله تعالى {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا، خالدين فيها لا يبغون عنها حِوَلا}. فالأعمال الصالحات هي ثمرات الإيمان.

ومما يؤكد أن الأعمال الصالحات هي ثمرات الإيمان وليست جزءً منه أن الله تبارك وتعالى جعل الإيمان شرطا لقبولها، وهذا في عدد من الآيات القرآنية الكريمة، منها قوله تعالى {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما}، وكون الإيمان شرطا لقبول الأعمال الصالحات يفيد أنه ليس هو إياها، أي ليس هو الأعمال الصالحات، وإلا لكان المعنى: ومن يعمل من الصالحات وهو من أهل العقيدة الصحيحة والأعمال الصالحات فإنه لن يذهب عمله سدى!.

أما إذا كان الإيمان في الدرجات الدنيا فإن الثمرات من العمل الصالح تكون قليلة وضعيفة، وقد يدخل صاحبُها النار إلا أنه لا يُخلد فيها، فقد روى الإمام البخاري عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في حديث الشفاعة: "فأستأذنُ على ربي، فيُؤذن لي، ويلهمني محامدَ أحمَدُه بها لا تحضرني الآن، فأقول يا رب أمتي أمتي، فيقال انطلقْ فأخرجْ من كان في قلبه مثقالُ شعيرة من إيمان، فأنطلقُ فأفعلُ، ثم أعود فأحمَده بتلك المحامد، فيقال انطلق فأخرجْ منها من كان في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان، فأنطلقُ فأفعل، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد، فيقول انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجْه من النار، فأنطلقُ فأفعل".

وأما إذا كان الإيمان في أدنى الدرجات على الإطلاق فإنه لا يثمر عملا صالحا البتة، فيدخل صاحبُه النار، ويمكث فيها ما شاء الله، بحيث لا تشمله شفاعة الشافعين في مراحلها الثلاث، وإنما يخرج بعدها بشفاعة أرحم الراحمين، ففي رواية البخاري المتقدمة عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في حديث الشفاعة: "ثم أعود الرابعة فأحمده بتلك المحامد، فأقول يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله، فيقول وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرِجن منها من قال لا إله إلا الله". والمراد: قول لا إله إلا الله مع قرينتها محمدٌ رسول الله.

وهذه الشفاعة هي ما جاء في رواية الإمام مسلم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "فيقول الله عز وجل شفـَعَتِ الملائكة وشفـَع النبيون وشفـَع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار، فيخرِج منها قوما لم يعملوا خيرا قط".

أي فيخرِج ربنا بواسع رحمته كلَّ مؤمن ليس عنده من الإيمان سوى أقلَّ من أدنى أدنى أدنى مثقالِ حبة خردل من إيمان، وهؤلاء لم يثمر ذلك القدر الضئيل الذي عندهم من الإيمان شيئا من العمل الصالح، ولذا فقد وُصفوا بأنهم "لم يعملوا خيرا قط".

ـ ولا بد من التنبيه هنا على ما وقع فيه بعض من صنفوا في الإيمان، فقد كتب بعض الناس في الإيمان وأطال، وكان كلامه منصبا على الإيمان الذي هو في المراتب العليا، وهو المنجي من عذاب الله، فلا يدخل أهلـُه النار أبدا، وهو الذي جاء ذكره في آيات قرآنية كريمة، كقوله تعالى {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تـُليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون، الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، أولئك هم المؤمنون حقا}، وفي أحاديث نبوية شريفة، كقوله صلى الله عليه وسلم "الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان". رواه مسلم بنحوه من حديث أبي هريرة.

والكلام بتطويل في هذا الباب مع الاقتصار على الإيمان الذي هو في المراتب العليا فيه قصور، حيث إنه يوهم أنه لا يوجد إيمان غير هذا، ومثل هذا الاقتصار يتجاهل إيمان أهل المراتب الدنيا، وهو الإيمان الذي لا ينجي من عذاب الله ولكنه ينجي من التخليد في عذاب الله، إذ يدخل أهلـُه النارَ ثم تدركهم الشفاعة فيخرجون منها ثم يدخلون الجنة، وهو الذي جاء ذكره في أحاديثَ نبويةٍ شريفة، كما سبقت الإشارة إلى بعضها في خروج عصاة المؤمنين من النار بالشفاعات الأربع ودخولهم الجنة بعد ذلك.

ـ وتعريف الإيمان بالأمور الاعتقادية هو الذي دل عليه حديث جبريل الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوما بارزا للناس، إذ أتاه رجل يمشي فقال: يا رسول الله ما الإيمان؟. قال: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه وتؤمن بالبعث الآخِر". قال: يا رسول الله ما الإسلام؟. قال: "الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان".

ورواه مسلم عن عمر بن الخطاب أنه قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيمَ الصلاة وتؤتيَ الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا". قال: فأخبرني عن الإيمان. قال: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمنَ بالقدر خيره وشره".

وجاء في آخر الروايتين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم".

ـ ولعل من أهم المسائل التي جاء جبريل عليه السلام ليعلمها للناس من أمر دينهم هي تحديد وتلخيص الفرق بين الإيمان والإسلام، أما أعمال الإيمان والإسلام فمعروفة لديهم من قبل.

قال ابن رجب رحمه الله في شرح حديث جبريل في جامع العلوم والحكم: "فأما الإسلام فقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بأعمال الجوارح الظاهرة من القول والعمل، وأولُ ذلك شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأما الإيمان فقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بالاعتقادات الباطنة".

ـ فإن قيل: لا يستقيم هذا التفريق بين الإيمان والإسلام، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الإيمان في حديثين آخَرين بما فسر به الإسلام في حديث جبريل، وفسر الإسلام في حديث آخر بما فسر به الإيمان في حديث جبريل.

فالجواب أن هذه استدلالات واهية لا يصح الاعتماد عليها، وانظرها في الملحق الذي بآخر هذا البحث.

والشهادتان: التصديقُ بهما مع الإذعان والانقياد القلبي إيمان، والنطق والتلفظ بهما مفتاح الإسلام، والانقياد العملي لما توجبانه تمام الإسلام.

ـ خلاصة الأمر في الإيمان والإسلام أن الإيمان ـ في غير الدرجة الدنيا منه ـ هو عقيدة صحيحة أثمرت عملا صالحا، والإسلام المقبول هو عمل صالح مؤسس على عقيدة صحيحة.

ومن ههنا فكثيرا ما يأتي التعبير عن الإيمان والمؤمنين بما يشمل الاعتقاد والقول والعمل جميعا، ومن ذلك النصوص التالية:

قال الله تعالى {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقا}.

وقال تعالى {والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا}.

وقال تعالى {قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون}.

وقال تعالى {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه}.

وقال تعالى {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون}.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان".

ولذا فقد قال جماعة من السلف في بيان الإيمان الذي ينجي العبد من عذاب الله: "الإيمان اعتقاد بالجَنان، وقول باللسان، وعمل بالأركان". أي: اعتقاد بالقلب وقول باللسان وعمل بأعضاء البدن.

وإذا فهمنا هذا القول على أن الأعمال ثمرات الإيمان أو أجزاء مكملة للإيمان فهذا صحيح، وهذا ما كانوا يقصدونه بقولهم هذا.

أما إذا فهمنا هذا القول على أن الأعمال من أركان الإيمان ـ كما نعلم أن غسْل الوجه من أركان الوضوء وأن الركوع من أركان الصلاة وأن الوقوف بعرفة من أركان الحج ـ فهذا غير صحيح، لأن كل عبادة من هذه العبادات تكون باطلة إذا نقص منها ركن واحد من أركانها، ويلزم ـ على القول بأن الأعمال من أركان الإيمان ـ أن من ترك فريضة واحدة أو ارتكب كبيرة واحدة فقد أبطل إيمانه وخرج من دائرة الإسلام بالكلية وصار مع المشركين الشركَ الأكبر.

وهذا هو قول الخوارج، وهو متوافق في النتيجة مع قول المعتزلة الذين لا يكفرون تارك الفريضة ومرتكب الكبيرة، ولكنهم يقولون هو في منزلة بين المنزلتين ومخلد في النار.

وهذا كله مخالف لإجماع أهل السنة، الذين لا يكفرون بترك الفرائض وارتكاب الكبائر إذا كان العبد مؤمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخِر.

ـ فإن قيل هذا الإيمان فما الكفر؟.

فالجواب أن الكفر أمر اعتقادي، وهو نقيض الإيمان، أي فالكافر هو الذي ليس عنده شيء من الإيمان، أو خلط إيمانه بالشرك فنقضَه وأبطلـَه.

ـ موضوع التكفير:

المؤمن يشهد لمن ظهرت عليه علامات الإيمان من عمل الصالحات والتقرب إلى المولى الجليل بأنواع القرُبات بما ظهر له منه، ويكِلُ السرائر إلى علام الغيوب جل وعلا، ولا يجزم بالشهادة بالإيمان إلا لمن شهد له من لا ينطق عن الهوى، صلوات ربي وسلامه عليه.

ويشهد على من ظهرت عليه علامات الكفر والشرك من الأمور التي لا تصدر إلا من الكافرين بما ظهر له منه، ويكل السرائر كذلك إلى علام الغيوب.

ومسألة التكفير في غاية الخطورة، فمن قال لمسلم يا كافر فقد باء بها أحدهما، أي فقد رجع بها أحدهما: إما القائل، وإما المَقـُول له، لكن إنما يكون القائل كافرا فيما إذا رمى غيره بالكفر قاصدا تسمية ما هو عليه من الإيمان كفرا، وإلا يكنْ كذلك بأن قال ما قاله من باب الظن والخطأ في الاجتهاد فهو غير محكوم عليه بالكفر، ولكنه بتسرعه مرتكب لكبيرة من الكبائر الموبقة.

ـ فإن قيل: هل يكون العمل كفرا مخرجا من الملة دون أن ينضم إليه شيء من عمل القلب؟ أي دون أن ينضم إليه شيء من الاعتقادات المكفرة؟:

فأقول:

من المعلوم من الدين بالضرورة أولا أن الله سبحانه وتعالى هو وحده المستحق للعبادة وأنه لا معبود بحق إلا الله، فمَن عبد الله وعبد غيره معه أو اعتقد جواز ذلك فقد أشرك وكفر الكفرَ المخرج من الملة، وهذه المسألة مبنية على مسألة أخرى، وهي هل يكون مجرد الفعل عبادة دون أن يقترن به عقيدة تجعله عبادة؟:

يظن بعض الناس أن كثيرا من الأفعال هي في حد ذاتها عبادات، فالركوع والسجود وإعطاء الفقير شيئا من المال والصوم والمكث بعرفة أو بالمسجد والطواف وذبح الأنعام وقراءة القرآن والهجرة من بلاد الكفر كلها ـ عندهم ـ عبادات وإن لم تكن بنية التعبد!.

لكن، قد يعطي الإنسانُ الفقيرَ شيئا من المال من باب المساعدة الإنسانية البحتة، وقد يظل ممسكا عن المفطرات يوما كاملا لغرض صحي أو علاجي، وقد يشده الهيام والحنين إلى بيت والده أو أستاذه فيظل يطوف حوله ويقبل أركانه، وقد يأتيه زائر كريم فيذبح له كبشا، وقد يقرأ القرآن ويستظهره حفظا عن ظهر قلب إعجابا ببلاغته، وقد يهاجر من بلد من بلاد الكفر بحثا عن مزيد من كسب المال، فهل هذه الأفعال عبادات؟!، والجواب الواضح البين هو لا.

الحقيقة هي أن أي فعل من هذه الأفعال لا يكون عبادة إلا إذا كان بقصد الخضوع والتقرب إلى الإله المعبود مع اعتقاد ربوبيته أو إلهيته، والنية هي التي تميز القصد في العمل، وهذا ما يدل عليه الحديث النبوي الشريف، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "إنما الأعمال بالنيات".

فالإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس لا يكون عبادة إلا بقصد امتثال أمر الله تعالى خضوعا وتقربا مع اعتقاد ربوبيته وإلهيته، وكذلك الوقوف بعرفة يوم عرفة والطواف بالكعبة المشرفة وذبح النسك والأضاحي، وكذلك الاعتكاف وقراءة القرآن والهجرة من بلاد الكفر.

بل الأفعال المقترنة بالتعظيم ليست في حد ذاتها عبادة كذلك، ولا تكون عبادة لمجرد كونها مقترنة بالتعظيم، إلا إذا اقترنت باعتقاد الربوبية أو الألوهية.

والدليل قول الله جل وعلا {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم}، والسجود من أفضل العبادات وأعظمها وأكثرها دلالة على الخضوع والتعظيم، ولو كان السجود عبادة بمجرد الفعل من حيث هو سجود لكان الله تعالى آمرا بالسجود لمخلوق من مخلوقاته، وهو شرك أكبر!، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

وقوله جل وعلا في قصة يوسف عليه السلام {ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا}، ولو كان هذا من الشرك لذكره الله جل شأنه بالإنكار.

قد يُظن بأن هذا لا دليل فيه، لأن ذلك السجود للمسجود له كان سجود تحية، وكان جائزا في تلك الشرائع السابقة ثم نـُسخ في هذه الشريعة المحمدية، فالجواب أن مسائل التوحيد والشرك لا تختلف في الشرائع الإلهية، ولذا فإنه لا يصح أن يدخلها النسخ، فمن الممكن أن يكونَ عملٌ ما كسجود المرء لمخلوق على وجه التحية جائزا في بعض الشرائع ويُنسخَ الجواز وينتقلَ الحكم للتحريم في شريعة أخرى، لكن لا يمكن أن يكون عملٌ من الأعمال جائزا في شريعة من الشرائع الإلهية وشركـًا أكبر في شريعة إلهية أخرى. فتيقظ.

فثبت بما ذكرت من الآيتين الكريمتين مع حديث "إنما الأعمال بالنيات" أن العمل ـ وإن كان يُراد به التعظيم ـ لا يكون عبادة دون أن يقترن به عقيدة تجعله عبادة، وبالتالي فإنه لا يكون كفرا مخرجا من الملة دون أن ينضم إليه شيء من عمل القلب، أي دون أن ينضم إليه شيء من الاعتقادات المكفرة.

ـ أقوال بعض الباحثين في موضوع التكفير:

ـ قال بعض الباحثين:

من لم يكفـِّر المشركين أو شك في كفرهم أو صحَّح مذهبهم فهو كافر، ومن اعتقد أن غير هدْي النبي صلى الله عليه وسلم أكملُ من هديه أو أن حكم غيره أحسن من حكمه فهو كافر، ومن أبغض شيئا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كافر، والدليل قوله تعالى {ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم}، ومن استهزأ بشيء من دين الله أو ثوابه أو عقابه فهو كافر، والدليل قوله تعالى {قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون؟! لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم}.

أقول: هذا الذي قاله الباحث صحيح، فجزاه الله خيرا.

ـ قال بعض الباحثين:

دعاء الأموات والاستغاثة بهم شرك، فإذا اعتقد المرء أنه لا بأس أن يُدعى مع الله غيره كالأنبياء صار مرتدا عن الإسلام، لأن الله تعالى يقول {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل}، وقال {فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون}، ومما يدخل في هذا ما يفعله عباد القبور اليوم في كثير من الأمصار من دعاء الأموات والاستغاثة بهم وطلبِ المدد منهم، فيقول بعضهم: يا سيدي المددَ المددَ، يا سيدي الغوثَ الغوثَ.

أقول:

يرى بعض المتسرعين في التكفير أن هذا دعاء وطلب من غير الله تعالى ويرونه من الشرك الأكبر.

والكلام الآن هنا ليس في مشروعية هذا القول أو في عدم مشروعيته، ولكن في أمر خطير، هو في كونه من الشرك الأكبر أو لا؟! فبين الأمرين فرق كبير جدًا أبعد مما بين المشرق والمغرب، إذ قد يكون الأمر غيرَ مشروع ولكنه ليس بشركٍ مخرجٍ من الملة، إذ قد يكون من الحرام أو من المكروه أو من خلاف الأَولى، فإذا كان شركا واضحا لا شبهة فيه فمرتكبه مشرك، وأما إذا كان مما دون ذلك ففاعله يُحكم عليه بما يستحقه مما هو دون الشرك الأكبر المخرجِ من الملة.

وهذه مسألة هامة جدا، ومن كفـَّر مؤمنا ـ بالشروط المعروفة عند العلماء ـ فقد كفر.

ولتوضيح المسألة أقول: لقد أمر الله تعالى العباد بدعائه، وبيَّن رسوله عليه الصلاة والسلام أن الدعاء من العبادة، لكن الفعل لا يكون عبادة إلا إذا اقترن باعتقاد الربوبية أو الألوهية.

وعلى هذا فمن دعا غير الله معتقدا أنه يملك النفع والضر من ذاته فقد أشرك، ومن دعا غير الله معتقدا أنه لا يملك من ذاته شيئا وأنه لا يدعوه إلا من حيث إن الله تعالى أذن له بشيء من التصرف في بعض الأشياء: فهذا لا مجال للحكم عليه بالشرك، والخلاف معه هو في المشروعية.

فإن قلتَ: هل يعطي الله بعضَ عباده التصرفَ في شيء من المخلوقات بأمره وإذنه ؟.

فيجيبك ابن القيم رحمه الله في كتاب التبيان في أقسام القرآن فيقول: "وأما دلالة الـمُقَسِّمات أمْرًا وهم الملائكة فلأن ما يُشاهَد من تدبير العالم العلوي والسفلي ومالا يُشاهَد إنما هو على أيدي الملائكة، فالرب تعالى يدبر بهم أمر العالم، وقد وكـَّل بكل عمل من الأعمال طائفة منهم، فوكل بالشمس والقمر والنجوم والأفلاك طائفة منهم، ووكـَّل بالموت طائفة، وبحفظ بني آدم طائفة، وبكل شأن من شؤون العالم طائفة".

وينبني على هذا وعلى ما قدمته من أن مجرد الفعل لا يكون شركا أنه لو نادى المسلم وقد انقطعت به السبل في أرض فلاة "يا عباد الله أعينوني" قاصدا معونة الملائكة الموكـَّلين بحفظ بني آدم فهذا ليس من الشرك في شيء البتة.

ـ هذا وقد روى عبدُ الله بنُ الإمام أحمد في سؤالاته عن أبيه رحمهما الله أن أباه قال: "ضللت الطريق في حَجة وكنت ماشيًا، فجعلت أقول يا عباد الله دلونا على الطريق، فلم أزل أقول ذلك حتى وقعتُ على الطريق".

ولا يُقال هنا لمَ لمْ يَدْعُ الإمام أحمد ابن حنبل رحمه الله ربه عز وجل؟، فقد يكون دعا ربَّ العباد جلَّ وعلا من حيث هو رب الأسباب ودعا العباد من حيث هم من الأسباب، وقوله "يا عباد الله" يعني أنه يدعوهم بالمقام الذي جعلهم المولى تعالى فيه، فكأنه يقول "يا رب أسألك بما جعلتَ في أولئك العباد من مقام إنجاد الملهوفين أن تفرج عني كربتي بإنجادهم الممنوحِ لهم من قِبَلك".

ومن لم يفهم حقيقة المسألة فالإمام أحمد ابن حنبل وولده عبد الله وعلماء الحنابلة الذين ذكروا تلك الحكاية دون إنكار: كلهم ـ حسب فهمه ـ مشركون!!، وحاشاهم من ذلك، وكذا المحدثون الذين رووا الحديثَ الواردَ في هذه المسألة في كتب الرواية ساكتين عليه، كلهم ـ حسب فهمه مشركون ـ !!، وحاشاهم من ذلك.

وهذه بعض روايات الحديث الوارد في المسألة:

روى ابن أبي شيبة في مصنفه والبيهقي في شعب الإيمان وفي الآداب من أربعة طرق عن أسامة بن زيد الليثي وهو مدني صدوق فيه لين، عن أبان بن صالح بن عمير وهو مدني ثقة، عن مجاهد وهو مكي ثقة إمام، عن ابن عباس أنه قال: "إن لله ملائكة فُضْلا سوى الحفظة يكتبون ورق الشجر، فإذا أصابت أحدَكم عرجة في سفر فليناد: أعينوا عباد الله رحمكم الله". هذا السند موقوف على ابن عباس، وفيه لين.

ورواه البزار في مسنده من طريق آخر عن أسامة بن زيد عن أبان بن صالح به نحوه مرفوعا. ورواه ابن أبي شيبة من طريق محمد بن إسحاق عن أبان بن صالح أن رسول الله e قال: "إذا نفرت دابة أحدكم أو بعيرُه بفلاة من الأرض لا يرى بها أحدا فليقلْ أعينوا عباد الله، فإنه سيُعان". والأصح فيه هو الموقوف على ابن عباس.

وقال البيهقي في كتاب الآداب عقب رواية هذا الأثر: " هذا موقوف على ابن عباس، مستعمَل عند الصالحين من أهل العلم، لوجود صدْقه عندهم فيما جربوا".

وروى أبو يعلى في مسنده وابن السني في عمل اليوم والليلة والطبراني في المعجم الكبير من طريق معروف بن حسان السمرقندي وهو ضعيف منكر الحديث، عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن ابن بريدة عن عبد الله بن مسعود أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة فليناد يا عباد الله احبسوا! يا عباد الله احبسوا! فإن لله حاضرا في الأرض سيحبسه".

وإذا كان هذا جائزا في الملائكة فإنه يجوز ـ عند بعض شرائح المسلمين ـ في غير الملائكة كذلك.

وأكرر القول: ليست المسألة مسألة إثبات المشروعية أو عدمِها، ولكنها مسألة إثبات أن مثل هذا الفعل هل هو من الشرك الأكبر أو لا ؟.

فمن دعا نبيا من أنبياء الله تعالى أو وليا من أوليائه قائلا "يا سيدي المددَ المددَ" معتقدا أنه لا يملك من ذاته شيئا من العطاء والمنع والضر والنفع وأن روحه تسبح في الملكوت وتنجد الملهوفين بإذن الله فهذا لا يُحكم عليه بالشرك، وإنما لم يكن ذلك شركا لأن القائل لم يجعل بذلك القول مَن يدعوهم شركاء لله تعالى لا في الربوبية ولا في الإلهية.

ـ وقريب من هذا المعنى: الحَلِف، ومن المعلوم أن الحَلِف يتضمن تعظيم المحلوف به، فمن أقسم بغير الله تعالى إذا كان يعتقد أن من أقسم به يستحق التعظيم الذي يؤهله للإقسام به كما يُحلف بالله تعالى فهذا كافر لا شك فيه، أما من أقسم بغير الله وهو غير معتقد لذلك فهذا ليس بكافر.

وفي هذا المعنى يقول الماوردي الفقيه الشافعي المتوفى سنة 450 في كتابه الحاوي: [روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من حلف بغير الله فقد أشرك"، وفيه تأويلان: أحدهما: فقد أشرك بين الله وبين غيره في التعظيم وإن لم يصرْ من المشركين الكافرين، والثاني: فقد أشرك بالله، فصار كافرا به إن اعتقد لزوم يمينه بغير الله كاعتقاد لزومها بالله].

وقد يقسم بعض الحالفين بمخلوق من الصالحين وهو يريد بذلك أنه يقسم بالفضل الإلهي على ذلك العبد الصالح فهذا ليس بكفر، لأنه بحَلِفِه به ـ على هذا الوجه ـ لم يجعله لله ندًّا.

ولا بد من مراعاة الفرق بين الاعتقادين، لئلا يقع الخلط في أحكام التكفير، وويل للمتسرعين فيها!!. ومسألة الكفر أو عدم الكفر هي غير مسألة الجواز أو عدم الجواز.

ومن هذا الباب إباحة فقهاء الحنابلة الحَلِفَ بالنبي صلى الله عليه وسلم، فمن حلف به صلى الله عليه وسلم معتقدا أنه يستحق المقام الذي يؤهله لأن يقسم به الحالفون كما يقسمون بالله فهذا كفـْر، وحاشا الإمامَ أحمد وفقهاءَ الحنابلة أن يجيزوه، ومن حلف به غير معتقد لذلك فهذا لا يكفر بذلك الحَلِف، وكأنه يقول "أقسم يا رب بالإكرام الذي أكرمتَ به محمدا صلى الله عليه وسلم إذْ أنعمتَ عليه بالنبوة والدرجة الرفيعة والمقام المحمود"، ومن لم يفهم هذا الفرق الدقيق فجمهور علماء الحنابلة ـ حسب فهمه ـ كفار خارجون من الملة!!، نعوذ بالله من هذا الضلال.

هذا وقد قال المرداوي الفقيه الحنبلي في كتاب الإنصاف: "وقال أصحابنا تجب الكفارة بالحلف برسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، وهو المذهب، وعليه جماهير الأصحاب، وهو من مفردات المذهب".

وقال الزركشي الفقيه الحنبلي في شرح مختصر الخرقي: "واستثنى عامةُ الأصحاب الحلفَ برسول الله، فجعلوا الحلف به يميناً مُكَفـَّرة، ونص عليه أحمد في رواية أبي طالب". أي: فجعلوا الحلف به يمينا منعقدة واجبة التكفير عنها في حالة الحنث، وأخذوا ذلك من نص الإمام أحمد في رواية أبي طالب عنه.

ـ وهنا يُقال: إذا كان ذلك كذلك فلمَ يُحكم على من طلب الشفاعة في الدنيا من رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر من الأمور بأنه مشرك؟! ألأن رسول الله ميت؟!، نعم، هو ميت من حيث الحياة الدنيوية ولكنه حيٌّ من حيث الحياة البرزخية، ولقد مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء على موسى عليه السلام وهو قائم يصلي في قبره، [وهذا رواه مسلم من حديث أنس، وروي من حديث ابن عباس وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم]. فتدبر.

ـ قد يقول بعض المتسرعين في التكفير:

إن ما يفعله من يدعون أنبياء الله وأولياءه هو عين ما كان عليه أهل الجاهلية، فقد كانوا يدعون الموتى من الصالحين ويحلفون بهم ويسألونهم الشفاعة ويتقربون بذلك إلى الله تعالى، فحُكم عليهم بأنهم مشركون.

أقول:

لقد كفر أهل الجاهلية إذ كانوا يدْعون الموتى من الصالحين معتقدين أنهم يستحقون أن يُتقرب لهم بالسجود والخضوع والتعظيم والدعاء الذي لا يليق إلا بالله، وهذا شرك في الألوهية، ولذا كان سجودهم لهم ودعاؤهم إياهم وحَلِفهم بهم عبادة لهم وشركا من الشرك الأكبر، وكانوا يعتقدون أن أولئك المعبودين يملكون من ذواتهم الشفاعة والضر والنفع، وهذا شرك في الربوبية، وقالوا {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى}، فقد كانوا يعبدونهم، والعبادة في الدين الحق لا تكون إلا للواحد الأحد الفرد الصمد سبحانه وتعالى، وقد قالوا متعجبين ومستنكرين {أجعل الآلهة إلها واحدا؟!}.

وقد تجد اليوم جماعة من أهل الإيمان والتوحيد يقصدون قبور بعض الأولياء بالزيارة ويطوفون حولها ويطلبون من أصحابها المدد والغوث بمعنى أن يدعوا لهم ويشفعوا لهم عند الله سبحانه، ولا يعتقدون فيهم أنهم يملكون لا لهم ولا لأنفسهم ضرا ولا نفعا، ولا يعتقدون فيهم شيئا من الربوبية أو الإلهية، ويعتقدون أنهم عباد مكرمون يستجيب الله تعالى دعاءهم فيمن توسل إلى الله بدعائهم له، فهؤلاء ليسوا مشركين، والخلاف بينهم وبين من لا يرى جواز ذلك هو في المشروعية، أي في أن هذه الأمور هل هي جائزة أو مكروهة أو محرمة؟، فتأمل، فبين قضية التكفير وقضية المشروعية فرق كبير وبون شاسع.

وكل من قال قولا فهو مطالب بالدليل من الكتاب والسنة، فمن أتى بدليل فعلى الرأس والعين، وإلا فاضربوا بقوله عرض الحائط.

ـ قال بعض الباحثين:

من يذبح لغير الله كمن يذبح للولي الفلاني أو للجني الفلاني أو ينذر له نذرا أو يسأله الشفاعة فهو مشرك.

أقول:

من يذبح لغير الله تعالى معتقدا جواز الذبح له تقربا إليه كما يُتقرب بذلك إلى الله فهذا شرك، وأما إذا ذبح لمن اشتهر أنه ولي لله معتقدا أن هذا قد يكون سببا في دعاء الولي وشفاعته له عند الله تعالى والوليُّ لا يملك من ذاته شيئا فهذا لا يُعد من الشرك.

ومن اعتقد أن ذلك الولي أو الجني المسلم يملك الشفاعة من ذاته فقد كفر، وإلا فلا.

ومن نذر أن يتصدق عند قبره مثلا معتقدا أنه يستحق أن يُتقرب إليه كما يُتقرب إلى الله تعالى فهذا شرك، وإلا فلا.

هذا وقد وقفت على قول لبعض المشايخ يقول فيه بعد التحذير الشديد من الشرك وذرائع الشرك: "وهكذا الطواف بالقبور، إذا طاف يتقرب بذلك إلى صاحب القبر يكون شركا أكبر، أما إذا طاف يحسب أن الطواف بالقبور قربة إلى الله قصْده التقرب إلى الله كما يطوف الناس بالكعبة ليتقرب إلى الله بذلك وليس يقصد الميت فهذا من البدع ومن وسائل الشرك المحرمة".

وهذا يؤيد ما ذهبت إليه من ضرورة التفريق بين عمل وعمل، فقد يكون بعض من يعمل العمل مشركا ويعمله غيره فلا يكون مشركا، وذلك بحسب اختلاف اعتقاد كل منهما وقصده.

ـ قال بعض الباحثين:

من الشرك مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى {ومن يتولهم منكم فإنه منهم، إن الله لا يهدي القوم الظالمين}.

أقول:

مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين إذا كانت صادرة عن مودة القلب لهم وما هم عليه من الكفر فهذا من الشرك الأكبر، وإذا كانت عن غير ذلك كأن يفعل هذا بعض المسلمين وهم كارهون للكفر وللعمل الذي يقومون به وعالمون أن هذا مما تسوله لهم أنفسهم الأمَّارة بالسوء وأنه فسق وعصيان فهذا ليس من الشرك الأكبر.

فقد روى الشيخان في صحيحيهما في قصة غزوة الفتح عن علي رضي الله عنه أنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها. فأتينا به رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس بمكة من المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول الله، فقال رسول الله: يا حاطب، ما هذا؟!. قال: يا رسول الله، لا تعْجَل علي، إني كنت امرأ ملصَقـًا في قريش، وكان مَن معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدا يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتدادا عن ديني، ولا رضًا بالكفر بعد الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمَا إنه قد صدَقكم. فقال عمر: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال: إنه قد شهد بدرا، وما يدريك؟! لعل الله اطلع على من شهد بدرا فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.

ففي هذا الحديث اتهم عمر حاطبا بالنفاق واستأذن في ضرب عنقه، وقال حاطب إنه لم يفعل ما فعل ارتدادا عن الدين، ولا رضًا بالكفر بعد الإسلام، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عمر عما أراد فعله، وقبـِل اعتذار حاطب، وجعل ذلك الفعل منه ذنبا، ورجا له من الله المغفرة لشهوده غزوة بدر، ولم يجعله شركا، ولو كان ما فعله شركا لأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ولأمره بالاستغفار منه مع النطق بكلمة التوحيد، ولمَا كان يُرجى له مغفرة ذلك الذنب بما قدم من العمل الصالح، وهو الجهاد.

وأما قوله تعالى {ومن يتولهم منكم فإنه منهم} فإنه يعني مَن يتولاهم الوَلاية القلبية، فإذا كان معهم بجسمه وعمله ولم يتولهم بقلبه فهو في دائرة الإيمان، لكن في أدناها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان".

ـ قال بعض الباحثين:

من الشرك الإعراضُ عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به، والدليل قوله تعالى {ومن أظم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها؟! إنا من المجرمين منتقمون}.

أقول:

إذا لم يكن المرء معرضا بقلبه عن الإيمان وكان عنده الحد الأدنى منه فلا يجوز الحكم عليه بالشرك، والإعراض عن التعلم والعمل لا يعني أن المعرض مشرك بالله العظيم إذا كان متحققا ـ على الأقل ـ بالحد الأدنى الذي يؤهله ليكون مشمولا بشفاعة أرحم الراحمين جل وعلا، لأننا إذا حكمنا عليه بالشرك فمعناه أنه مخلد في جهنم ولا تدركه الشفاعة بإطلاق.

وكونه من الظالمين يعرضه للانتقام الرباني، ليس في هذا شك، ولكن ليس كل من كان من الظالمين فهو مشرك.

ـ قال بعض الباحثين:

ومن الردة الردةُ بالفعل، مثل ترك الصلاة، فكون الرجل لا يصلي ـ وإن قال إنها واجبة ـ هذه ردة على الأصح من أقوال العلماء، لقول النبي صلى الله عليه وسلم "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر"، وقوله صلى الله عليه وسلم "بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة"، وقال عبد الله بن شقيق العقيلي - التابعي المتفق على جلالة قدره رحمه الله ـ: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة.

أقول:

روى ابن أبي شيبة وابن حنبل والترمذي وابن حبان عن بُريدة بن الحُصَيب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر". وروى مسلم والترمذي عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة". وروى الترمذي ومحمد بن نصر عن عبد الله بن شقيق العقيلي أنه قال: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة. وروى محمد بن نصر أن عمر بن الخطاب قال يوم طـُعن لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، فصلى والجرح يثعب دما. وروى محمد بن نصر عن علي رضي الله عنه أنه قال: من لم يصل فهو كافر. وروى نحوه عن ابن مسعود وابن عباس وأبي الدرداء وسعد بن عمارة رضي الله عنهم. وروى النسائي في الكبرى عن مسروق أنه قال: القاضي إذا أكل الهدية فقد أكل السحت، وإذا قبل الرشوة بلغت به الكفر.

الصلاة ركن من أركان الإسلام، وهي أهم أركانه بعد الشهادتين، لا يشك في هذا مسلم.

تارك الصلاة جحودا كافرٌ كفرا اعتقاديا مخرجا من الملة، وأما تاركها كسلا فهذا في محل النظر، وقد أطلق النبي صلى الله عليه وسلم القول بكفر تاركها، ويحتمِل أن يكون مراده من هذين الحديثين ومراد أصحابه رضوان الله عليهم هو أن تارك الصلاة كسلا كافرٌ كفرا عمليا، وليس الكفرَ الاعتقادي المخرج من الملة، من باب ما يقوله بعض السلف "هو كفر دون كفر".

والترجيح لا يصح أن يكون بدون مرجح، وهو في هذا لا يكون إلا بقول الله تعالى أو قول رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم ذكر الحديث الصحيح عن نبينا صلوات الله وسلامه عليه، فقد قال: "ثم أعود الرابعة فأحمده بتلك المحامد، فأقول يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله، فيقول وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرِجن منها من قال لا إله إلا الله". وقال: "فيقول الله عز وجل شفـَعَتِ الملائكة وشفـَع النبيون وشفـَع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار، فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط".

وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم بعض الذنوب غير ترك الصلاة كفرا، وستأتي تلك النصوص في كلام ابن أبي العز رحمه الله قريبا، وأجمعت الأمة على أن المراد بها الكفر العملي الذي لا يخرج صاحبه من ملة الإسلام.

والصحابة لم يكونوا يرمون المسلم الذي وقع في الذنب مهما كان ذنبه كبيرا بالكفر، سوى في ترك الصلاة، وذلك لأهميتها وكونها عمودَ الإسلام، وكانوا يطلقون على تلك الكبيرة اللفظ الذي أطلقه عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا لا يعني أنهم كانوا يرون أنه مرتد عن الدين بالكلية.

وهذه بعض أقوال العلماء في المسألة:

قال الإمام الطحاوي ردا على من فهم من حديث جابر في كفر تارك الصلاة أنه يعني الكفر المخرج من الملة: "فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونِه: أن الكفر المذكور في هذا الحديث خلاف الكفر بالله عز وجل، وإنما هو عند أهل اللغة أنه يغطي إيمان تارك الصلاة ويغيِّبه حتى يصير غالبا عليه مغطيا له".

وعَنـْونَ ابن حبان لحديث بُريدة بقوله "ذكـْر لفظة أوهمت غير المتبحر في صناعة الحديث أن تارك الصلاة حتى يخرج وقتها كافر بالله جل وعلا"، ثم روى الحديث وعلق عليه بقوله: "أطلق المصطفى صلى الله عليه وسلم اسم الكفر على تارك الصلاة إذ ترْك الصلاة أول بداية الكفر، لأن المرء إذا ترك الصلاة واعتاده ارتقى منه إلى ترك غيرها من الفرائض، وإذا اعتاد ترك الفرائض أداه ذلك إلى الجحْد، فأطلق صلى الله عليه وسلم اسم النهاية التي هي آخر شعب الكفر على البداية التي هي أول شعبها وهي ترك الصلاة".

وقال ابن قدامة الفقيه الحنبلي في مبحث تارك الصلاة في كتابه المغني: "واختلفت الرواية هل يُقتل لكفره أو حدا؟ فرُوي أنه يُقتل لكفره، كالمرتد، فلا يُغسل ولا يُكفن ولا يُدفن بين المسلمين ولا يرثه أحد ولا يرث أحدا، اختارها أبو إسحاق بن شاقلا وابن حامد، والرواية الثانية يُقتل حدا مع الحكم بإسلامه، كالزاني المحصن، وهذا اختيار أبي عبد الله ابن بطة، وأنكر قولَ من قال إنه يكفر، وذكر أن المذهب على هذا لم يجد في المذهب خلافا فيه، ولأن ذلك إجماع المسلمين، فإننا لا نعلم في عصر من الأعصار أحدا من تاركي الصلاة تـُرك تغسيله والصلاة عليه ودفنه في مقابر المسلمين ولا مُنع ورثتـُه ميراثـَه ولا مُنع هو ميراثَ مورثه ولا فـُرق بين زوجين لترك الصلاة من أحدهما، مع كثرة تاركي الصلاة، ولو كان كافرا لثبتت هذه الأحكام كلها، وأما الأحاديث المتقدمة فهي على سبيل التغليظ والتشبيه له بالكفار، لا على الحقيقة، وهو أصوب القولين، والله أعلم".

وقال ابن أبي العز في شرح العقيدة الطحاوية: [الشارع قد سمى بعض الذنوب كفرا، قال الله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}. وقال صلى الله عليه وسلم: "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر". وقال صلى الله عليه وسلم: "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر". وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن". وقال صلى الله عليه وسلم: "بين المسلم وبين الكفر ترك الصلاة". وقال صلى الله عليه وسلم: "من حلف بغير الله فقد كفر". وقال صلى الله عليه وسلم: "ثنتان في أمتي هما بهم كفر: الطعن في الأنساب، والنياحة على الميت". وأهل السنة متفقون كلهم على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر كفرا ينقل عن الملة بالكلية، ومتفقون على أنه لا يخرج من الإيمان والإسلام ولا يدخل في الكفر ولا يستحق الخلود مع الكافرين، ومتفقون على أنه يستحق الوعيد المرتب على ذلك الذنب، كما وردت به النصوص].

وقال: "ثم بعد هذا الاتفاق تبين أن أهل السنة اختلفوا خلافا لفظيا لا يترتب عليه فساد، منهم من قال هو كفر عملي لا اعتقادي، ومنهم من قال هو كفر مجازي غير حقيقي، إذ الكفر الحقيقي هو الذي ينقل عن الملة، فليس بين فقهاء الأمة نزاع في أصحاب الذنوب إذا كانوا مقرين باطنا وظاهرا بما جاء به الرسول".

ثم قال: "وهنا أمر يجب أن يُتفطن له، وهو أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفرا ينقل عن الملة، وقد يكون معصية، وذلك بحسب حال الحاكم: فإنه إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب وأنه مخير فيه أو استهان به مع تيقنه أنه حكم الله فهذا كفر أكبر، وإن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله وعلـِمَه في هذه الواقعة وعدَل عنه مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة فهذا عاص ويسمى كافرا كفرا مجازيا أو كفرا أصغر".

 

ـ ملحق حول بعض المرويات الحديثية المشتملة على تفسير الإيمان بما فـُسر به الإسلام في حديث جبريل أو تفسير الإسلام بما فـُسر به الإيمان في حديث جبريل.

قد يقول قائل: لا يستقيم هذا التفريق بين الإيمان والإسلام، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الإيمان في حديثين آخَرين بما فسر به الإسلام في حديث جبريل، وفسر الإسلام في حديث آخر بما فسر به الإيمان في حديث جبريل.

فأما النوع الأول من هذين فهو ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما من طريق شعبة بن الحجاج عن أبي جمرة عن ابن عباس أنه قال في حديث وفد عبد القيس: فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع ونهاهم عن أربع، أمرهم بالإيمان بالله وحده، قال: "أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟". قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "شهادة أنْ لا إله إلا الله وأنَّ محمدا رسول الله، وإقامُ الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس". فقد جاء تفسير الإيمان هنا ـ حسب الظاهر ـ بما فـُسر به الإسلام.

وكذا ما رواه ابن أبي شيبة والبيهقي في الشعب عن جرير بن عبد الحميد الرازي عن منصور بن المعتمر عن سالم بن أبي الجعد عن عطية مولى بني عامر عن يزيد بن بشر أنه قال: قدمت المدينة فدخلت على عبد الله بن عمر فأتاه رجل من أهل العراق، فقال ابن عمر: "إن الإيمان بني على خمس: تعبد الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتحج البيت وتصوم رمضان، كذلك قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم". فقد جاء تفسير الإيمان هنا كذلك بما فـُسر به الإسلام.

وأما النوع الثاني من هذين فهو ما رواه عبد الرزاق ـ وعنه أحمد ابن حنبل وعبد بن حُميد ـ عن معْمر عن أيوب السختياني عن أبي قلابة عبد الله بن زيد عن عمرو بن عبَسة أنه قال: قال رجل: يا رسول الله ما الإسلام؟. قال: "أن يسلِم قلبُك لله وأن يسلـَم المسلمون من لسانك ويدك". قال: فأي الإسلام أفضل؟. قال: "الإيمان". قال: وما الإيمان؟. قال: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت". قال: فأي الإيمان أفضل؟. قال: "الهجرة". فقد جاء تفسير أفضل أعمال الإسلام هنا بما فـُسر به الإيمان.

فالجواب أن هذه استدلالات واهية لا يصح الاعتماد عليها:

فأما حديث ابن عباس في وفد عبد القيس فيحتاج إلى بيان وإيضاح:

طريق شعبة عن أبي جمرة عن ابن عباس فيه جزء معلول سندا ومتنا، وهو ذكر الصوم فيه، فإعلاله من حيث السند هو لأن البخاري ومسلما وغيرهما رووه من طريق عباد بن عباد وحماد بن زيد وقرة بن خالد عن أبي جمرة عن ابن عباس به نحوه بغير هذا السياق، ليس في رواياتهم ذكر الصوم، وإعلاله متنا هو لأنه لو كان طريق شعبة صحيحا لكان قد أمرهم بخمس خصال وليس بأربع.

هذا وقد أوضحتْ إحدى الروايات عن حماد بن زيد في صحيح مسلم مفتاح الحل، حيث جاء فيها "شهادة أن لا إله إلا الله، وعقد واحدة"، وهذا يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم ـ بعدما ذكر لهم الإيمان وتفسيرَه ـ عقد بأصابعه ما يدل على أنه قد ذكر خصلة واحدة، وذلك على ما تعارفت عليه العرب من الدلالة بالأصابع على العدد، وهذا يستدعي أن يذكر لهم بعد ذلك ثلاث خصال، وهي التي تتم بها الخصال أربعا.

وعلى هذا فليست كل الخصال المأمور بها في هذا الحديث تفسيرا للإيمان، وهذا يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفسر الإيمان بالشهادتين والصلاة والزكاة وأداء الخمس من المغنم، وأنه إنما فسره لهم بالشهادتين فقط، وأنه ذكر لهم بعد تفسير الإيمان: الصلاةَ والزكاة وأداءَ الخمس من المغنم، تتميما للخصال الأربع المأمور بها.

وأما حديث "بُني الإيمان على خمس" من رواية ابن عمر فهذا من الأوهام، ويزيد بن بشر راويه عنه رجل مجهول، وقد روى ابن حنبل في مسنده قصة الرجل السائل وجوابَ ابنِ عمر له من طريق سفيان الثوري عن منصور عن سالم بن أبي الجعد عن يزيد بن بشر عن ابن عمر بلفظ "بُني الإسلام على خمس"، وكذلك رواها البخاري من طريق نافع عن ابن عمر بلفظ "بُني الإسلام على خمس"، وليست بلفظ "بُني الإيمان".

وبذلك يتبين بطلان قول من ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فسر الإيمان في هذين الحديثين بما فسر به الإسلام في حديث جبريل.

وأما حديث عمرو بن عبسة فإن هذا السند ضعيف ومعلول:

فأما كونه ضعيفا فلأن أبا قلابة ثقة يرسل ولم يصرح بالسماع فالسند فيه شبهة الانقطاع، ويؤكد ذلك أن روايته عن عمرو بن عبسة مرسلة، كما جزم به المزي، فهذا إسناد ضعيف.

وأما كونه معلولا فلأن مسددَ بنَ مسرهد والحارث أبن أبي أسامة في مسنديهما والقاضيَ إسماعيل في أحاديث أيوب السختياني ومحمدَ بن نصر في تعظيم قدر الصلاة وأبا نعيم في معرفة الصحابة والبيهقي في الشعب رووه من طريق إسماعيل ابن علية وحماد بن زيد وسفيان الثوري وعبد الوارث بن سعيد عن أيوب السختياني عن أبي قلابة عن رجل من أهل الشام عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن رواية الجماعة هي الصواب، وتبين بها أن أبا قلابة لم يروه عن عمرو بن عبسة، وإنما رواه عن الرجل المبهم عن أبيه. والسند الذي فيه راو مبهم هو ضعيف.

وبذلك يتبين بطلان قول من ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فسر الإسلام في هذا الحديث بما فسر به الإيمان في حديث جبريل.

 

ـ خلاصة البحث:

الإيمان هو التصديق مع إذعان النفس وقـَبولها لما وقع التصديق به، أما مجرد التصديق بدون إذعان النفس وقبولها فليس بإيمان.

الإسلام هو شهادة أنْ لا إله إلا الله وأنَّ محمدا رسول الله وإقامُ الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان والحج.

الإيمان بالله لا يعني مجرد التصديق بوجود الله فحسب، بل هو يقتضي الإيمان بعظمته وجلاله وعلمه وقدرته ووحدانيته في ربوبيته وألوهيته كذلك.

توحيد الربوبية يقتضي الإيمان بأن الله جل وعلا هو الخالق الرازق المعطي المانع الضار النافع مالك الملك، وتوحيد الألوهية يقتضي الإيمان بأن الله تعالى هو وحده المستحق للعبادة، فلا معبود بحق إلا الله، فمن لم يحقق في قلبه توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية فهو مشرك.

من العلماء الذين بينوا توحيد الألوهية: الإمام أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني المتوفى سنة 403، والإمام فخر الدين محمد بن عمر الرازي المتوفى سنة 606، والإمام عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام المتوفى سنة 660، والإمام يحيى بن شرف النووي المتوفى سنة 676، وابن تيمية أحمد بن عبد الحليم المتوفى سنة 728.

الإيمان محله القلب، والأعمال الصالحة ثمرات الإيمان.

الإيمان القوي يثمر الانقياد لله جل وعلا بفعل أوامره واجتناب نواهيه، وكلما كان الإيمان في قلب العبد المؤمن أقوى كانت ثمراته أكثر وأطيب، وهي الأعمال الصالحات، وهو في هذه الدرجة اعتقاد وقول وعمل.

أما إذا كان الإيمان في الدرجات الدنيا فإن الثمرات من العمل الصالح تكون قليلة وضعيفة، وقد يدخل صاحبُها النار إلا أنه لا يُخلد فيها.

وأما إذا كان الإيمان في أدنى الدرجات على الإطلاق فإنه لا يثمر عملا صالحا البتة، فيدخل صاحبُه النار، ويمكث فيها ما شاء الله، بحيث لا تشمله شفاعة الشافعين في مراحلها الثلاث، وإنما يخرج بعدها بشفاعة أرحم الراحمين.

الكفر أمر اعتقادي، وهو نقيض الإيمان، فالكافر هو الذي ليس عنده شيء من الإيمان، أو خلط إيمانه بالشرك فنقضَه وأبطلـَه.

مسألة التكفير في غاية الخطورة، فمن قال لمسلم يا كافر فقد باء بها أحدهما.

العمل لا يكون كفرا مخرجا من الملة دون أن ينضم إليه شيء من عمل القلب، أي دون أن ينضم إليه شيء من الاعتقادات المكفرة.

أي فعل من الأفعال لا يكون عبادة إلا إذا كان بقصد الخضوع والتقرب إلى الإله المعبود مع اعتقاد ربوبيته أو إلهيته.

مسائل التوحيد والشرك لا تختلف في الشرائع الإلهية، ولذا فإنه لا يصح أن يدخلها النسخ، ولا يمكن أن يكون عملٌ من الأعمال جائزا في شريعة من الشرائع الإلهية وشركـًا أكبر في شريعة إلهية أخرى.

من اعتقد أن غير هدْي النبي صلى الله عليه وسلم أكملُ من هديه أو أن حكـْم غيره أحسن من حكمه أو أبغض شيئا أو استهزأ بشيء مما جاء به فهو كافر الكفر الأكبر.

الكلام في مشروعية القول أو الفعل وعدم مشروعيته هو غير مسألة كونه من الشرك الأكبر أو لا، فبين الأمرين فرق كبير جدًا أبعد مما بين المشرق والمغرب.

دعاء الأموات والاستغاثة بهم مع اعتقاد أنهم يملكون من أنفسهم النفع والضر والإغاثة هو شرك أكبر.

من دعا غير الله معتقدا أنه لا يملك من ذاته شيئا وأنه لا يدعوه إلا من حيث إن الله تعالى أذن له بشيء من التصرف في بعض الأشياء: فهذا لا مجال للحكم عليه بالشرك، والخلاف معه هو في المشروعية.

قال الإمام أحمد ابن حنبل: "ضللت الطريق في حَجة وكنت ماشيًا، فجعلت أقول يا عباد الله دلونا على الطريق، فلم أزل أقول ذلك حتى وقعتُ على الطريق". وهذا كأنه يقول "يا رب أسألك بما جعلتَ في أولئك العباد من مقام إنجاد الملهوفين أن تفرج عني كربتي بإنجادهم الممنوحِ لهم من قِبَلك".

الحَلِف يتضمن تعظيم المحلوف به، فمن أقسم بغير الله تعالى إذا كان يعتقد أن من أقسم به يستحق التعظيم الذي يؤهله للإقسام به كما يُحلف بالله تعالى فهذا كافر لا شك فيه، أما من أقسم بغير الله وهو غير معتقد لذلك فهذا ليس بكافر. ومن هذا الباب إباحة الإمام أحمد وفقهاء الحنابلة الحَلِفَ بالنبي صلى الله عليه وسلم.

أهل الجاهلية كانوا يدْعون الموتى من الصالحين معتقدين أنهم يستحقون أن يُتقرب لهم بالسجود والخضوع والتعظيم والدعاء الذي لا يليق إلا بالله، وهذا شرك في الألوهية، ولذا كان سجودهم لهم ودعاؤهم إياهم وحَلِفهم بهم عبادة لهم وشركا من الشرك الأكبر، وكانوا يعتقدون أن أولئك المعبودين يملكون من ذواتهم الشفاعة والضر والنفع، وهذا شرك في الربوبية.

من يذبح لغير الله تعالى معتقدا جواز الذبح له تقربا إليه كما يُتقرب بذلك إلى الله فهذا شرك، وأما إذا ذبح لمن اشتهر أنه ولي لله معتقدا أن هذا قد يكون سببا في دعاء الولي وشفاعته له عند الله تعالى والوليُّ لا يملك من ذاته شيئا فهذا لا يُعد من الشرك.

ومن اعتقد أن ذلك الولي أو الجني المسلم يملك الشفاعة من ذاته فقد كفر، وإلا فلا.

مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين إذا كانت صادرة عن مودة القلب لهم وما هم عليه من الكفر فهذا من الشرك الأكبر، وإذا كانت عن غير ذلك كأن يفعل هذا بعض المسلمين وهم كارهون للكفر وللعمل الذي يقومون به وعالمون أن هذا مما تسوله لهم أنفسهم الأمَّارة بالسوء وأنه فسق وعصيان فهذا ليس من الشرك الأكبر.

الصلاة ركن من أركان الإسلام، وهي أهم أركانه بعد الشهادتين.

تارك الصلاة جحودا كافرٌ كفرا اعتقاديا مخرجا من الملة، وتاركها كسلا كافرٌ كفرا عمليا، وليس الكفرَ الاعتقادي المخرج من الملة، من باب ما يقوله بعض السلف "هو كفر دون كفر".

وكتبه صلاح الدين بن أحمد الإدلبي في 9/ 1/ 1435، الموافق 13/ 11/ 2013 سوى بعض الإضافات. والحمد لله رب العالمين.