الثلاثاء، 25 نوفمبر 2014

حديث صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة



ـ روى البخاري ومسلم من طريقين عن ابن جريج عن عطاء أنه قال: سمعت ابن عباس قال: لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت دعا فى نواحيه كلها، ولم يصل حتى خرج منه، فلما خرج ركع ركعتين في قبل الكعبة وقال "هذه القبلة". وجاء في رواية صحيح مسلم التصريح بسماع ابن جريج له من عطاء، وأن ابن عباس سمع هذا من أسامة بن زيد.
ورواه مسلم كذلك من طريق همام بن يحيى عن عطاء عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة وفيها ست سوار، فقام عند سارية فدعا، ولم يصل.
ورواه البخاري من طريقين عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي  صلى الله عليه وسلم دخل البيت فكبر في نواحيه، وخرج ولم يصل فيه.
ـ وروى البخاري ومسلم عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أنه قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت هو وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة، فأغلقوا عليهم، فلما فتحوا كنت أول من ولج، فلقيت بلالا، فسألته هل صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم، بين العمودين اليمانيين.
ورواه البخاري من طريق مجاهد عن ابن عمر به نحوه.
ورواه البخاري ومسلم من طرق كثيرة عن نافع عن ابن عمر به نحوه.
ـ فبين حديثي ابن عباس وابن عمر تعارض واضح:
فأما البخاري فلم يترك الروايات دون ترجيح، فروى حديث ابن عباس في باب قوله تعالى {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}، وفي باب من كبر في نواحي البيت، وفي باب أين ركز النبي الراية يوم الفتح، وروى حديث ابن عمر في أبواب كثيرة منها "باب الصلاة في الكعبة"، وهو واضح كل الوضوح في أنه يرجح حديث ابن عمر هنا على حديث ابن عباس، لأنه رواه في الباب المناسب لهذا الجزء من الحديث، وهو الاختلاف فيما إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى في البيت يوم الفتح أو لا.
وأما مسلم فبدأ بروايات حديث ابن عمر ثم أتبعها بروايات حديث ابن عباس، ومن طريقته أنه يقدم الروايات الثابتة ويؤخر الروايات التي وقع فيها خلل.
فتبين بهذا أن الإمامين البخاري ومسلم اللذين رويا الحديثين كليهما لم يكونا غافلين عن التمييز بين الرواية الصحيحة والرواية التي وقع فيها خلل.
وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 3/ 2/ 1436، الموافق 25/ 11/ 2014، والحمد لله رب العالمين.

الأربعاء، 19 نوفمبر 2014

حديث صيام يوم عاشوراء


حديث صيام يوم عاشوراء

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
وبعد، فقد وردت روايات كثيرة عن نبينا صلى الله عليه وسلم في صيام يوم عاشوراء، وهي بحاجة لبحث وتمحيص، فرأيت أن أتتبعها في أهم مصادر السنة النبوية.
وهذه الروايات تختلف ألفاظها باختلاف طرقها، ثم إن منها الروايات السليمة ومنها الضعيفة والمعلولة، ولذا فأجعل هذا البحث في مطلبين:

المطلب الأول في الروايات السليمة
رُوي هذا الحديث عن عبد الله بن عباس وعلي بن أبي طالب وأبي موسى الأشعري وعبد الله بن عمر وسلمة بن الأكوع وعبد الله بن مسعود والرُبَيـِّع بنت مُعَوِّذ ومعاوية بن أبي سفيان وجابر بن سمرة وقيس بن سعد بن عبادة وعائشة وغيرهم:
* فأما حديث ابن عباس فرواه البخاري ومسلم وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن حنبل والدارمي والنسائي في الكبرى وأبو نعيم في المستخرج على صحيح مسلم من طريقين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال "ما هذا؟"، فقالوا: هذا يومٌ صالح، هذا يومُ نجى الله بني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى شكرا لله، ونحن نصومه تعظيما له. فقال: "فأنا أحق بموسى منكم". فصامه وأمر بصيامه. سنده صحيح.
* وأما حديث علي فرواه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند والبزار والشجري في أماليه من طريقين عن جابر بن يزيد الجعفي عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم عاشوراء ويأمر به. [جابر الجعفي كوفي ضعيف مدلس مات سنة 128 تقريبا].
وروى ابن أبي شيبة عن أبي الأحوص عن أبي إسحاق عن الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب أنه كان يأمر بصوم يوم عاشوراء.
وروى أبو داود الطيالسي عن شعبة أنه قال: أخبرني أبو إسحاق قال: سمعت الأسود بن يزيد يقول: ما رأيت أحدا كان آمَرَ بصوم عاشوراء من علي بن أبي طالب وأبي موسى رحمهما الله. ورواه عبد الرزاق وابن الجعد وابن أبي شيبة عن أربعة آخرين عن أبي إسحاق عن الأسود، ولكن ليس عندهم التصريح بسماعه إياه منه.
* وأما حديث أبي موسى الأشعري فرواه البخاري ومسلم وابن حنبل من طرق عن حماد بن أسامة عن أبي عميس عتبة بن عبد الله بن عتبة عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن أبي موسى رضي الله عنه أنه قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وإذا أناس من اليهود يعظمون عاشوراء ويصومونه، فقال: "نحن أحق بصومه". فأمر بصومه. سنده صحيح.
* وأما حديث عبد الله بن عمر فرواه البخاري عن مسدد عن إسماعيل ابن علية عن أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: صام النبي صلى الله عليه وسلم عاشوراء وأمر بصيامه، فلما فـُرض رمضان ترك. ورواه ابن حنبل عن ابن علية به، ورواه البزار من طريق سلمة بن علقمة وكذا الطبريُّ في تهذيب الآثار من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري، كلاهما عن نافع عن ابن عمر به نحوه. سنده صحيح.
ورواه ابن خزيمة والبخاري وأبو نعيم في المستخرج على صحيح مسلم من أربعة طرق عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد عن عمر بن محمد بن زيد عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اليوم عاشوراء، فمن شاء فليصمه، ومن شاء فليفطر".
* وأما حديث سلمة بن الأكوع فرواه البخاري ومسلم وابن حنبل من طرق عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أنه قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من أسلم أنْ أذنْ في الناس أنَّ من كان أكل فليصم بقية يومه ومن لم يكن أكل فليصم، فإن اليوم يوم عاشوراء. سنده صحيح.
* وأما حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فرواه مسلم وابن أبي شيبة وابن حنبل من طرق عن الأعمش عن عمارة بن عمير عن عبد الرحمن بن يزيد بن قيس أنه قال: دخل الأشعث بن قيس على عبد الله وهو يتغدى، فقال: يا أبا محمد ادن إلى الغداء. فقال: أوليس اليوم يوم عاشوراء؟!. فقال: وهل تدري ما يوم عاشوراء؟ إنما هو يوم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه قبل أن ينزل شهر رمضان، فلما نزل شهر رمضان تركه. ورواه البخاري ومسلم من طريق آخر عن ابن مسعود به نحوه. سنده صحيح.
* وأما حديث الربيع بنت معوذ فرواه البخاري ومسلم وابن راهويه وابن حنبل من طرق عن خالد بن ذكوان عن الربيع بنت معوذ أنها قالت: أرسل النبي صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار من أصبح مفطرا فليتمَّ بقية يومه ومن أصبح صائما فليصم. سنده جيد.
* وأما حديث معاوية فرواه مالك والشافعي والبخاري ومسلم من ثلاثة طرق عن ابن شهاب الزهري عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع معاوية بن أبي سفيان يوم عاشوراء عام حجَّ وهو على المنبر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لهذا اليوم: "هذا يوم عاشوراء ولم يُكتب عليكم صيامه، وأنا صائم، فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر". سنده صحيح، وأما المتن ففيه جزء معلول بعلة الوقف على الصحابي، وهو قوله "وأنا صائم فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر".
فقد رواه النسائي في السنن الكبرى عن أبي داود عن يعقوب عن أبيه عن صالح عن ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية يخطب الناس بالمدينة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب الله عليكم صيامه". وإني صائم، معاوية يقول ذلك، فمن أحب أن يصوم فليصم، ومن أحب أن يفطر فليفطر. [أبو داود سليمان بن سيف الحراني ثقة مات سنة 272. يعقوب بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم مدني نزيل بغداد ثقة مات سنة 208. أبوه مدني نزيل بغداد ثقة مات سنة 184. صالح بن كيسان مدني ثقة مات بعد سنة 140. ابن شهاب الزهري محمد بن مسلم بن عبيد الله مدني ثقة إمام مات سنة 124. حميد بن عبد الرحمن بن عوف مدني ثقة مات سنة 95]. فهذا السند صحيح، وفيه التصريح بأن هذا الجزء هو من قول معاوية.
* وأما حديث جابر بن سَمُرة فرواه مسلم من طريق جعفر بن أبي ثور عن جابر بن سمرة رضي الله عنه أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بصيام يوم عاشوراء ويحثنا عليه ويتعاهدنا عنده، فلما فـُرض رمضان لم يأمرنا ولم ينهنا ولم يتعاهدنا عنده. [جعفر بن أبي ثور ذكره ابن حبان في الثقات وقال عنه علي بن المديني مجهول]. سنده ليس بقوي، ولكنه لا بأس به في الشواهد.
* وأما حديث قيس بن سعد بن عبادة فرواه الطيالسي والبزار والنسائي في الكبرى عن شعبة عن الحكم بن عتيبة عن القاسم بن مخيمرة عن عمرو بن شرحبيل عن قيس بن سعد بن عبادة أنه قال: كنا نصوم عاشوراء ونعطي زكاة الفطر قبل أن ينزل علينا صوم رمضان والزكاة، فلما نزلا لم نـُؤمر بهما ولم نـُنه عنهما، وكنا نفعله. سنده صحيح.
ورواه ابن حنبل والبزار والنسائي في الكبرى والطبراني في الكبير من طرق عن سفيان الثوري عن القاسم بن مخيمرة عن أبي عمار الهمداني عريب بن حميد عن قيس بن سعد أنه قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيام يوم عاشوراء. [عريب بن حميد ثقة]، والاختلاف على القاسم بن مخيمرة في تسمية شيخه في هذا الحديث ليس علة قادحة، لأنهما كليهما ثقتان.
* وأما حديث عائشة فرواه البخاري والنسائي في الكبرى والطبراني في مسند الشاميين من طريق شعيب بن أبي حمزة، ورواه مسلم وابن حنبل والطبري في تهذيب الآثار من طريق يونس بن يزيد، ورواه البخاري وابن راهويه وأبو عوانة والطبري في تهذيب الآثار من طريق سفيان بن عيينة، ورواه الشافعي في مسنده وعلي بن الجعد من طريق ابن أبي ذئب، ورواه البيهقي في معرفة السنن وأبو عوانة والطحاوي في معاني الآثار ومشكل الآثار من طريق يحيى ابن بكير وثلاثةٍ آخرين عن الليث بن سعد عن عُقيل بن خالد، خمستهم عن الزهري عن عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بصيام يوم عاشوراء، فلما فرض رمضان كان من شاء صام ومن شاء أفطر. سنده صحيح.
* وروى ابن حنبل وغيره أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم تثبت مشروعية صيام عاشوراء والأمرَ به، من حديث أبي هريرة وجابر ومعاذ بن جبل وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن بدر الجهني ومحمد بن صيفي وأسماء بن حارثة.


المطلب الثاني في الروايات الضعيفة والمعلولة
وردت روايات في حديث صيام عاشوراء تشتمل على بعض المعاني غيرِ الثابتة، فأستعرض منها في هذا المطلب بعض ما روي من حديث ابن عباس وابن عمر وعائشة وأبي قتادة الأنصاري وأبي هريرة:
* حديث ابن عباس في صيام عاشوراء تقدم من رواية سعيد بن جبير عنه، وهو حديث صحيح، ولكن جاء عنه من طريق أخرى ألفاظ ليست بثابتة:
فقد رواه مسلم وأبو داود من طريقين عن يحيى بن أيوب عن إسماعيل بن أمية عن أبي غطفان بن طريف المري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى!، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإذا كان العامُ المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع". قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم. [يحيى بن أيوب الغافقي مصري صدوق فيه لين مات سنة 168. إسماعيل بن أمية مكي ثقة مات سنة 139. أبو غطفان بن طريف حجازي ثقة].
هذه الرواية سندها لين، وفي متنها خلل في مواضع يدل على أن يحيى بن أيوب لم يضبط هذه الرواية:
الموضع الأول قوله "حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى"!، وهذا بخلاف ما صح عن ابن عباس وأبي موسى ـ كما تقدم في المطلب الأول ـ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فرأى اليهود تصوم عاشوراء فسأل عن ذلك فأجابوه فصامه وأمر بصيامه.
الموضع الثاني إقحام لفظة النصارى في السياق، وهي ليست فيه.
الموضع الثالث إقحام كلمة "فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله" عقب قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "فإذا كان العامُ المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع"، وتلك الكلمة المقحمة المنسوبة لابن عباس ليست ثابتة في أصل الرواية.
فقد روى ابن الجعد وابن أبي شيبة وابن حنبل والبيهقي من طريق ابن أبي ذئب عن القاسم بن عباس عن عبد الله بن عمير عن عبد الله بن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع". وهذا سند جيد، وليس في هذه الرواية تلك الكلمة المقحمة المنسوبة لابن عباس. وله طريق آخر ضعيف رواه الطبراني في الكبير من طريق يعقوب بن حميد بن كاسب عن مروان بن معاوية عن إسماعيل بن مسلم عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم. [يعقوب بن حميد بن كاسب وإسماعيل بن مسلم ضعيفان].
وروى عبد الرزاق وابن الجعد من طريقين أحدهما صحيح عن عطاء بن أبي رباح أنه سمع ابن عباس يقول في يوم عاشوراء: "خالفوا اليهود وصوموا التاسع والعاشر".
والذي يُفهم من سياق الروايات الصحيحة المتعددة أن صيام يوم عاشوراء تُرك بعد نزول صيام رمضان، بغض النظر عما إذا كان صيامه في الأصل واجبا فتُرك وجوبه أو كان مستحبا استحبابا شديدا فتُركت شدة الاستحباب، وهذا يشير إلى أن الحرصَ على صيامه والعزمَ على صيام التاسع معه إنما كان في السنة الأولى من الهجرة وفي السنة الثانية قبل رمضان، وليس قبيل الوفاة النبوية.
هذا وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا أشد الحرص على صيام عاشوراء في السنة الأولى من الهجرة، عملا بما أخبر به اليهودُ عن نجاة موسى عليه السلام وقومه وهلاك عدوهم في مثل ذلك اليوم، وكان ذاك منه صلى الله عليه وسلم تأليفا لقلوبهم، وإظهارا لوحدة المصدر في نبوة الأنبياء الكرام، وذلك فيما رواه البخاري ومسلم والشافعي وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن حنبل والطحاوي من طريقين عن عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم يومَ عاشوراء وهذا الشهر. يعني شهر رمضان. [عبيد الله بن أبي يزيد مكي ثقة مات سنة 126]. سنده صحيح.
ومن الواضح أن ابن عباس لم يكن إذ ذاك مدركا بنفسه لمثل ذلك الحدث، حيث كان في السنة الرابعة من عمره تقريبا، لكن من المعلوم كذلك أن معظم مروياته هي عن كبار الصحابة، ومراسيلُ الصحابة الذين ثبتت صحبتهم مقبولة.
* حديث ابن عمر:
تقدم من رواية أيوب السختياني وسلمة بن علقمة ويحيى بن سعيد الأنصاري عن نافع عن ابن عمر أنه قال: صام النبي صلى الله عليه وسلم عاشوراء وأمر بصيامه، فلما فـُرض رمضان ترك. وهذا حديث صحيح.
ورواه البخاري ومسلم وابن أبي شيبة وابن حنبل وأبو داود والبزار وابن خزيمة من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه قال: كان عاشوراء يصومه أهل الجاهلية، فلما نزل رمضان قال "من شاء صامه ومن شاء لم يصمه".
فإذا كان مراد ابن عمر من أهل الجاهلية هنا أنهم اليهود الذين سألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامهم لهذا اليوم بعد مقدمِه المدينة فهو صحيح.
ولكن يبدو أن نافعا راويَه عن ابن عمر ذهب وهْمه إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي حدَّث الناسَ بأن أهل الجاهلية كانوا يصومون عاشوراء فحدَّث هو به جماعة من الرواة كذلك!.
وهكذا فقد رواه مسلم والشافعي والدارمي وابن ماجه والبزار والنسائي في الكبرى وابن حبان من خمسة طرق عن نافع عن ابن عمر أنه ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يومُ عاشوراء فقال: "كان يوما يصومه أهل الجاهلية، فمن أحب منكم أن يصومه فليصمه، ومن كره فليدَعْه"!. وهذا مخالف لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه هو سأل اليهودَ عن صومهم ليوم عاشوراء، ولم يحدث هو بهذا عن أهل الجاهلية.
ـ وتقدم من رواية أربعة عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد عن عمر بن محمد بن زيد عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اليومَ عاشوراء، فمن شاء فليصمه، ومن شاء فليفطر". وهذا حديث صحيح.
ولكن رواه مسلم وأبو عوانة والطبراني في الكبير والأوسط من أربعة طرق أخرى عن أبي عاصم النبيل عن عمر بن محمد بن زيد عن سالم عن ابن عمر أنه قال: ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء فقال: "ذاك يوم كان يصومه أهل الجاهلية، فمن شاء صامه ومن شاء تركه". وهذا الطريق كسابقه، فيقال فيه ما قيل في ذاك.
* حديث عائشة:
تقدم من رواية خمسة عن الزهري عن عروة أن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بصيام يوم عاشوراء، فلما فـُرض رمضان كان من شاء صام ومن شاء أفطر. وهذا صحيح.
ولكن جاء عنها من طرق أخرى ألفاظ لا تصح:
ـ فمنها ما رواه البخاري عن يحيى ابن بكير عن الليث بن سعد عن عُقيل، وعن محمد بن مقاتل عن عبد الله بن المبارك عن محمد بن أبي حفصة، كلاهما عن الزهري عن عروة عن عائشة أنها قالت: كانوا يصومون عاشوراء قبل أن يُفرض رمضان، وكان يوما تـُسْتر فيه الكعبة، فلما فرض الله رمضان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شاء أن يصومه فليصمه، ومن شاء أن يتركه فليتركه". ورواه ابن حنبل من طريق محمد بن أبي حفصة به. [محمد بن أبي حفصة صدوق فيه لين].
وهذه الرواية موافقة لسائر روايات الحديث سوى أن فيها زيادة، وهي أن يوم عاشوراء كان يوما تـُسْتر فيه الكعبة، وهذه الزيادة لم تردْ في سائر ما وقفت عليه من روايات هذا الحديث، وهي ضعيفة سندا ومتنا:
فأما السند ففيه محمد بن أبي حفصة، وهو وإن وثقه ابن معين وأبو داود فقد ضعفه النسائي وابن عدي.
فإن قيل: إن هذه الزيادة لم يتفرد بها ابن أبي حفصة، وهي ثابتة عند البخاري من طريق عُقيل كذلك!.
فأقول: هذا كلام من لا يعرف منهج الإمام البخاري في إيراد الطرق المعطوفِ بعضُها على بعض، ويظن من لا يعرف منهجه ـ تبعا لذلك ـ أنه يجوز عزوُ مثلِ ذلك المتن لكلا الطريقين المتعاطفين، وهذا غير صحيح.
فمنهج البخاري في إيراده الطريقين المعطوفَ أحدُهما على الآخر هو أنه يأتي بالمتن على رواية الثاني منهما، وفي مثل هذا الحال يكون المتن من الطريق الأول هو بنحو اللفظ الذي جاء من الطريق الثاني وإن لم يكن مطابقا له.
واللفظ الذي جاء به هذا الحديث من طريق يحيى ابن بكير عن الليث بن سعد عن عُقيل عن الزهري ليس فيه هذه الزيادة، وذلك كما رواه البيهقي في معرفة السنن وكما تقدمت الإشارة إليه في المطلب الأول عند حديث عائشة. [يحيى ابن بُكير لا بد فيه من كتابة الألف لأنه يحيى بن عبد الله بن بكير].
وأما المتن وهو أن الكعبة كانت تـُكسى يوم عاشوراء فله شاهد مرفوع رواه الأزرقي في أخبار مكة عن جده عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي عن أبيه عن خالد بن المهاجر بن خالد بن الوليد أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم عاشوراء فقال: "هذا يوم عاشوراء، يوم تنقضي فيه السنة، وتـُستر فيه الكعبة، وتـُرفع فيه الأعمال، ولم يُكتب عليكم صيامه، وأنا صائم، فمن أحب منكم أن يصوم فليصم".
[جد الأزرقي هو أحمد بن محمد بن الوليد الغساني الأزرقي مكي ثقة مات سنة 222. إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي مدني متروك اتهم بالكذب، ووثقه الشافعي، ولم يجد ابن عقدة ولا ابن عدي في حديثه منكرا إلا عن شيوخ يحتملون، ومات سنة 184. محمد بن أبي يحيى الأسلمي مدني ثقة فيه لين مات سنة 147. خالد بن المهاجر حجازي تابعي ذكره ابن حبان في الثقات وروى له مسلم حديثا واحدا، ومات بعد سنة 90]. فهذا السند تالف.
وروى الأزرقي عن جده عن سعيد بن سالم عن ابن جريج أنه قال: كانت الكعبة فيما مضى إنما تـُكسى يوم عاشوراء إذا ذهب آخر الحاج، حتى كانت بنو هاشم، فكانوا يعلقون عليها القمُص يوم التروية من الديباج، فإذا كان يوم عاشوراء علقوا عليها الإزار.
[عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج مكي ثقة من أتباع التابعين وكان يدلس ويرسل، ومات سنة 150]. فهذا السند ـ إذا كان المراد منه التحدث عن وقت حياة عائشة رضي الله عنها ـ فهو مرسل ضعيف.
وروى الأزرقي عن جده عن سعيد بن سالم عن عبد الله بن أبي نجيح عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كسا الكعبة القباطيَّ من بيت المال، ثم عثمانُ من بعده، فلما كان معاوية بن أبي سفيان كساها كسوتين: كسوة عمر القباطي، وكسوة ديباج، فكانت تكسى الديباجَ يوم عاشوراء، وتـُكسى القباطيَّ في آخر شهر رمضان للفطر.
[سعيد بن سالم خراساني نزيل مكة صدوق مات بعد سنة 190. عبد الله بن أبي نجيح مكي ثقة مات سنة 132]. سعيد بن سالم لم يذكر المزي أنه روى عن ابن أبي نجيح، وقد مات بعده بستين عاما ولم يُذكر في ترجمته أنه من المعمَّرين، فالظاهر أن روايته عنه منقطعة، وقد وقفت على سَنَوَات وَفَيَات اثنين وعشرين راويا من شيوخه، وكانت وفَيَاتهم بين سنة 145 وسنة 184، فهو أقدم وفاة من أقدم شيوخه وفاة بثلاثة عشر عاما، وهذا يؤكد أنه لم يسمع منه، فالسند منقطع ضعيف.
وروى الأزرقي عن محمد بن يحيى عن الواقدي عن عبد العزيز بن المطلب عن إسحاق بن عبد الله عن أبي جعفر محمد بن علي أنه قال: "كان الناس يهدون إلى الكعبة كسوة، فلما كان يزيد بن معاوية كساها الديباج الخسرواني، فلما كان ابن الزبير اتبع أثره، فكان يبعث إلى مصعب بن الزبير بالكسوة كل سنة، فكانت تكسى يوم عاشوراء".
[محمد بن يحيى: الذي يظهر لي أنه محمد بن يحيى بن علي أبو غسان الكناني، وهو مدني صدوق ثقة فيه لين ومات قرابة سنة 200، وهو غير محمد بن يحيى بن عبد الكريم الأزدي المعروف بالرواية عن الواقدي، وهذا بصري نزيل بغداد ثقة مات سنة 252. الواقدي محمد بن عمر مدني نزيل بغداد، وثقه جماعة واتهمه بالكذب جماعة، ويبدو أنه كان ثقة في التاريخ، لكنه في الحديث يضع الأسانيد، ومات سنة 207. عبد العزيز بن المطلب حجازي صدوق فيه لين. إسحاق بن عبد الله لا يُعرف]. فهذا السند تالف.
وهذا يعني أن هذه الكلمة "وكان يوما تـُسْتر فيه الكعبة" مدرجة في النص، وأن هذا لم يكن في زمن عائشة رضي الله عنها ولا قبله، فربما حدث بعد ذلك في عهد يزيد.
ـ ومنها ما رواه مالك والبخاري ومسلم وابن أبي شيبة وابن حنبل من طرق عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: كان يوم عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه في الجاهلية، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما فـُرض رمضان كان هو الفريضة وتـُرك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه ومن شاء تركه.
هذه الرواية غريبة، وليس فيها ما يشير إلى سبب صيام قريش ليوم عاشوراء في الجاهلية، ولا لسبب صيام النبي صلى الله عليه وسلم له في الجاهلية!، ولو كان هذا ثابتا عنه معروفا لديه لما سأل اليهودَ عن صيامهم له، والثابت هو أنه صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فرأى اليهود تصوم عاشوراء فسأل عن ذلك فأجابوه فصامه وأمر بصيامه. فهذه الرواية خطأ.
ـ ومنها ما رواه البخاري ومسلم وأبو عوانة والطحاوي في مشكل الآثار وأبو نعيم في المستخرج على صحيح مسلم من ثلاثة طرق عن الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن عراك بن مالك عن عروة عن عائشة أن قريشا كانت تصوم يوم عاشوراء في الجاهلية، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيامه حتى فرض رمضان، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شاء فليصمه ومن شاء أفطر".
وما قيل في طريق هشام بن عروة عن أبيه يقال كذلك في طريق عراك بن مالك عن عروة.
* حديث أبي قتادة الأنصاري:
ـ روى مسلم والطيالسي وابن حنبل والترمذي وابن ماجه من طرق عن غيلان بن جرير عن عبد الله بن معبد الزماني عن أبي قتادة الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده، وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله". وسقط ـ في بعض الطرق ـ اسم غيلان بن جرير بين قتادة وعبد الله بن معبد.
[غيلان بن جرير بصري ثقة مات سنة 129. عبد الله بن معبد الزماني بصري ثقة مات بعد سنة 80. أبو قتادة الأنصاري صحابي مدني مات سنة 54]. ظاهر هذا الإسناد الصحة، وفي متنه غرابة.
هذا وقد قال البخاري في التاريخ الأوسط: "ورواه عبد الله بن معبد الزماني عن أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم في صوم عاشوراء، ولم يذكر سماعا من أبي قتادة". وقال في التاريخ الكبير: "عبد الله بن معبد الزماني عن أبي قتادة، ولا نعرف سماعه من أبي قتادة". وقال فيه كذلك: "وروى غيلان بن جرير عن عبد الله بن معبد عن أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يُعرف سماع عبد الله بن معبد من أبي قتادة". وفي هذا إشارة إلى عدم ثبوت الحديث، لأنه يستعمِل مثل هذا يريد بذلك إعلال الرواية.
ـ ورواه ابن حنبل وعبد بن حميد والنسائي في الكبرى من طرق عن أبي الخليل عن حرملة بن إياس عن أبي قتادة الأنصاري به نحوه. [صالح بن أبي مريم أبو الخليل بصري ثقة. حرملة بن إياس ذكره ابن حبان في الثقات].
ظاهر هذا الإسناد أنه لا بأس به في المتابعة، ولكنه منقطع بين حرملة بن إياس وأبي قتادة، فقد رواه النسائي في السنن الكبرى والبيهقي في السنن في أحد الأوجه المروية عن سفيان الثوري عن منصور بن المعتمر عن أبي الخليل هكذا: "عن حرملة عن مولى لأبي قتادة عن أبي قتادة"، بزيادة راو بين حرملة وأبي قتادة، ورواه البيهقي من طريق جرير بن عبد الحميد عن منصور عن أبي الخليل "عن حرملة عن أبي قتادة أو عن مولى أبي قتادة عن أبي قتادة"، هكذا على الشك، كما ذكر له البخاري في التاريخ الكبير وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل والدارقطني في العلل طرقا بإدخال مولى لأبي قتادة في الإسناد، وحيث إن حرملة لم يصرح بالسماع من أبي قتادة ـ في الطرق الخالية عن الاسم المزيد ـ فلا بد من إثباته في الإسناد، وحيث إنه مبهم فالسند ضعيف.
هذا وقد قال البخاري في التاريخ الأوسط: "حرملة بن إياس، ولا يُعرف له سماع من أبي قتادة".
* حديث أبي هريرة:
رواه ابن حنبل عن أبي جعفر عن عبد الصمد بن حبيب بن عبد الله الأزدي عن أبيه عن شبيل بن عوف عن أبي هريرة أنه قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بأناس من اليهود قد صاموا يوم عاشوراء، فقال "ما هذا الصوم؟"، فقالوا: هذا اليوم الذي نجى الله موسى وبني إسرائيل من الغرق وغرق فيه فرعون، وهذا يوم استوت فيه السفينة على الجودي، فصامه نوح وموسى شكرا لله تعالى. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "أنا أحق بموسى، وأحق بصوم هذا اليوم". فأمر أصحابه بالصوم. [أبو جعفر المدائني محمد بن جعفر صدوق فيه لين مات سنة 206. عبد الصمد بن حبيب بن عبد الله الأزدي لين. أبوه مجهول. شبيل بن عوف كوفي ثقة]. فهذا السند ضعيف.
وذكر نوح عليه السلام واستواء السفينة على الجودي في يوم عاشوراء مقـْحم على هذا الحديث وليس بثابت.
* ولحكمة لا نعلمها فقد وقع مقتلُ سبطِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم الإمامِ الشهيد الحسينِ بن علي رضي الله عنهما في يوم عاشوراء، وعلى هذا فإن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، وإنا على فراقك ـ يا ريحانة رسول الله من الدنيا ـ لمحزونون.
هذا وقد وقفتُ على روايات في بعض كتب الشيعة الإمامية تدل على أن استحباب صيام يوم عاشوراء كان معروفا عندهم، وأنهم كرهوه بعد ذلك لوقوع مقتل الإمام الحسين في مثل هذا اليوم:
جاء في كتاب الكافي للكليني:
عن أبي الجارود أنه قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: فرض الله عز وجل على العباد خمسا، ... ثم نزل الصوم، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا كان يومُ عاشوراء بعث إلى ما حوله من القرى فصاموا ذلك اليوم، فنزل شهر رمضان بين شعبان وشوال، ...  .
عن علي بن الحسين عليه السلام أنه قال: وأما الصوم الذي صاحبُه فيه بالخيار فصوم يوم الجمعة والخميس وصوم البيض وصوم ستة أيام من شوال بعد شهر رمضان وصوم يوم عرفة وصوم يوم عاشوراء، فكل ذلك صاحبه فيه بالخيار إن شاء صام وإن شاء أفطر.
عن أبي جعفر عليه السلام أنه سئل عن صوم يوم عاشوراء فقال: صوم متروك بنزول شهر رمضان، والمتروك بدعة.
وأسانيد هذه الروايات عندهم ضعيفة.
* خلاصة المسألة أن حديث صيام يوم عاشوراء صحيح ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأن هذا يومٌ يُصام استحبابا لأن النبي صلى الله عليه وسلم صامه وأمر بصيامه، لكن ليس فيه شيء من مظاهر الفرح أو التوسعة في المأكل والمشرب.
ومن قال بأن هذا الحديث هو من وضع الأمويين ومن شايعهم فكلامه مجانب للصواب، والله أعلم.
وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 26/ 1/ 1436، الموافق 19/ 11/ 2014، والحمد لله رب العالين.

الخميس، 6 نوفمبر 2014



بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين وأصحابه الغر الميامين، ومن اقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
وبعد فهذا جزء من كتابي الذي سميته "كشف المعلول مما سُمي بسلسلة الأحاديث الصحيحة"، يتعلق برواية "مخافة أن يفوتني 
عاشوراء":

الحديث الثاني والثلاثون:
روي عن النبي ﷺ أنه قال: «إن عشت إن شاء الله إلى قابل صمت التاسع، مخافة أن يفوتني عاشوراء».
خرجه بعض الناس من المعجم الكبير للطبراني [10: 401 ـ 402] عن اثنين من شيوخه، عن أحمد ابن يونس، عن ابن أبي ذئب، عن القاسم بن عباس، عن عبد الله بن عمير، عن ابن عباس، مرفوعاً، وصحح إسناده، وأدخله في الصحاح، وفي هذا نظر.
ـ هذا الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده عن أربعة من شيوخه، وابنُ أبي شيبة عن واحد منهم، وعنه الإمام مسلم في صحيحه، أربعتهم عن ابن أبي ذئب، به نحوه، دون قوله في آخر الحديث «مخافة أن يفوتني عاشوراء». [مسند الإمام أحمد 1: 224 ـ 225، 236، 345. المصنف لابن أبي شيبة 3: 58. صحيح مسلم 8: 13]. [وبعض هذه الطرق في مسند عبد بن حميد وسنن ابن ماجه والبيهقي، ورواه عن ابن أبي ذئب كرواية الجماعة: محمد بن إسماعيل بن أبي فديك كما في السنن المأثورة للشافعي ومعرفة السنن والآثار للبيهقي، وعلي بن الجعد كما في مسنده].
ويبعد في العادة أن يروي [سبعة] عن شيخ واحد خبراً فينفردَ أحدهم بمثل هذه الزيادة التي تبين سبب العزم على صيام اليوم التاسع مع العاشر ويغفلَ الآخرون جميعاً عن الاهتمام بحفظ السبب.
[وههنا إضافة هامة، وهي أن تلك الزيادة التي جاءت في المعجم الكبير للطبراني ليست ثابتة عن أحمد ابن يونس، وإنما هي من باب الوهَم، وذلك أن البيهقي روى هذا الحديث في معرفة السنن والآثار وشعب الإيمان وفضائل الأوقات من ثلاثة طرق عن أحمد ابن يونس وليس في واحد منها «مخافة أن يفوتني»، بل فيها عقب الحديث «مخافة أن يفوته يوم عاشوراء» ، أو «مخافة أن يفوته »، وهذا يعني أن هذه الإضافة هي تعليل من أحد الرواة، وليست من قول النبي ﷺ، والطريقان الأولان قويان].
ـ ثم إن مما يضعّف هذه الزيادة مخالفتَها لما رواه مسلم وأبو داود من طريق أبي غطفان بن طريف المري أنه قال: سمعت عبد الله بن عباس يقول: حين صام رسول الله ﷺ يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى ؟!. فقال رسول الله ﷺ: «فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع». [صحيح مسلم 8: 12. سنن أبي داود 11: 317 ـ 318]. ومخالفتَها لما رواه الإمام أحمد [1: 241] من طريق ابن أبي ليلى، عن داود بن علي [بن عبد الله بن عباس]، عن أبيه، عن جده ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله ﷺ: «صوموا يوم عاشوراء وخالفوا فيه اليهود، وصوموا قبله يوماً أو بعده يوماً». ومخالفتَها لما رواه عبد الرزاق [4: 287] قال: أخبرنا ابن جريج قال: أخبرني عطاء أنه سمع ابن عباس يقول في يوم عاشوراء: «خالفوا اليهود وصوموا التاسع والعاشر».
فتبين من هذه الروايات التي أوردتها أن تلك الزيادة مخالفة لما رواه تابعيان عن ابن عباس مرفوعاً، ولما رواه تابعي ثالث عن ابن عباس موقوفاً، وهذه الروايات تفيد أن صيام التاسع مع العاشر من أجل مخالفة اليهود، لا من مخافة أن يفوتهم عاشوراء، فالرواية المشتملة على تلك الزيادة منكرة، والله أعلم.
ـ هذا وقد روى ابن أبي شيبة من طريق ابن أبي ذئب عن شعبة مولى ابن عباس ـ وهو ضعيف ـ عن ابن عباس أنه كان يصوم عاشوراء في السفر ويوالي بين اليومين مخافة أن يفوته، كما روَى عن طاوس أنه كان يصوم قبله وبعده يوماً مخافة أن يفوته. [المصنف لابن أبي شيبة 3: 58، 59]. [ويبدو أن أصل تلك الزيادة هو ما ذكره شعبة مولى ابن عباس توهماً، ثم أضافه ابن أبي ذئب بناء على ما سمعه من شعبة مولى ابن عباس، ثم وهم بعض الرواة فحرّف «مخافة أن يفوته يوم عاشوراء» وجعلها «مخافة أن يفوتني يوم عاشوراء» ، فصارت جزءً من الحديث المرفوع إلى النبي ﷺ، ثم جاء من لا يفقه علم العلل فصحح الحديث بتلك الزيادة المنكرة]. والله أعلم.

الثلاثاء، 4 نوفمبر 2014

حديث عاشوراء



بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
وبعد، فحديث عاشوراء له طرق كثيرة جدا، وأرى أن تتبعها في أهم مصادر السنة النبوية يغني عما سواها.
وهذه الروايات تختلف ألفاظها باختلاف طرقها، فمنها السليمة، ومنها الضعيفة والمعلولة، ولذا فأجعل هذا البحث في مطلبين:

المطلب الأول في الروايات السليمة
رُوي هذا الحديث عن عبد الله بن عباس وعلي بن أبي طالب وأبي موسى الأشعري وعبد الله بن عمر وسلمة بن الأكوع وعبد الله بن مسعود والرُبَيـِّع بنت مُعَوِّذ ومعاوية بن أبي سفيان وجابر بن سمرة وقيس بن سعد بن عبادة وغيرهم:
ـ فأما حديث ابن عباس فرواه البخاري ومسلم وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن حنبل والدارمي والنسائي في الكبرى من طريقين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال "ما هذا؟"، فقالوا: هذا يومٌ صالح، هذا يومُ نجى الله بني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى شكرا لله، ونحن نصومه تعظيما له. فقال: "فأنا أحق بموسى منكم". فصامه وأمر بصيامه. سنده صحيح.
ـ وأما حديث علي فرواه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند والبزار والشجري في أماليه من طريقن عن جابر بن يزيد الجعفي عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم عاشوراء ويأمر به. جابر الجعفي كوفي ضعيف مدلس مات سنة 128 تقريبا.
وروى ابن أبي شيبة عن أبي الأحوص عن أبي إسحاق عن الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب أنه كان يأمر بصوم يوم عاشوراء.
وروى أبو داود الطيالسي عن شعبة أنه قال: أخبرني أبو إسحاق قال: سمعت الأسود بن يزيد يقول: ما رأيت أحدا كان آمَرَ بصوم عاشوراء من علي بن أبي طالب وأبي موسى رحمهما الله. ورواه عبد الرزاق وابن الجعد وابن أبي شيبة عن أربعة آخرين عن أبي إسحاق عن الأسود، ولكن ليس عندهم التصريح بسماعه إياه منه.
ـ وأما حديث أبي موسى الأشعري فرواه البخاري ومسلم وابن حنبل من طرق عن حماد بن اسامة عن أبي عميس عتبة بن عبد الله بن عتبة عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن أبي موسى رضي الله عنه أنه قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وإذا أناس من اليهود يعظمون عاشوراء ويصومونه، فقال: "نحن أحق بصومه". فأمر بصومه. سنده صحيح.
ـ وأما حديث عبد الله بن عمر فرواه البخاري عن مسدد عن إسماعيل ابن علية عن أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: صام النبي صلى الله عليه وسلم عاشوراء وأمر بصيامه، فلما فـُرض رمضان ترك. ورواه ابن حنبل عن ابن علية به، ورواه البزار من طريق سلمة بن علقمة وكذا الطبريُّ في تهذيب الآثار من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري، كلاهما عن نافع عن ابن عمر به نحوه. سنده صحيح.
ـ وأما حديث سلمة بن الأكوع فرواه البخاري ومسلم وابن حنبل من طرق عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أنه قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من أسلم أنْ أذنْ في الناس أنَّ من كان أكل فليصم بقية يومه ومن لم يكن أكل فليصم، فإن اليوم يوم عاشوراء. سنده صحيح.
ـ وأما حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فرواه مسلم وابن أبي شيبة وابن حنبل من طرق عن الأعمش عن عمارة بن عمير عن عبد الرحمن بن يزيد بن قيس أنه قال: دخل الأشعث بن قيس على عبد الله وهو يتغدى، فقال: يا أبا محمد ادن إلى الغداء. فقال: أوليس اليوم يوم عاشوراء؟!. فقال: وهل تدري ما يوم عاشوراء؟ إنما هو يوم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه قبل أن ينزل شهر رمضان، فلما نزل شهر رمضان تركه. ورواه البخاري ومسلم من طريق آخر عن ابن مسعود به نحوه. سنده صحيح.
ـ وأما حديث الربيع بنت معوذ فرواه البخاري ومسلم وابن راهويه وابن حنبل من طرق عن خالد بن ذكوان عن الربيع بنت معوذ أنها قالت: أرسل النبي صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار من أصبح مفطرا فليتمَّ بقية يومه ومن أصبح صائما فليصم. سنده جيد.
ـ وأما حديث معاوية فرواه مالك والشافعي والبخاري ومسلم من ثلاثة طرق عن ابن شهاب الزهري عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع معاوية بن أبي سفيان يوم عاشوراء عام حجَّ وهو على المنبر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لهذا اليوم: "هذا يوم عاشوراء ولم يُكتب عليكم صيامه، وأنا صائم، فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر". سنده صحيح، وأما المتن ففيه جزء معلول بعلة الوقف على الصحابي، وهو قوله "وأنا صائم فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر".
فقد رواه النسائي في السنن الكبرى عن أبي داود عن يعقوب عن أبيه عن صالح عن ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية يخطب الناس بالمدينة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب الله عليكم صيامه". وإني صائم، معاوية يقول ذلك، فمن أحب أن يصوم فليصم، ومن أحب أن يفطر فليفطر. [أبو داود سليمان بن سيف الحراني ثقة مات سنة 272. يعقوب بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم مدني نزيل بغداد ثقة مات سنة 208. أبوه مدني نزيل بغداد ثقة مات سنة 184. صالح بن كيسان مدني ثقة مات بعد سنة 140. ابن شهاب الزهري محمد بن مسلم بن عبيد الله مدني ثقة إمام مات سنة 124. حميد بن عبد الرحمن بن عوف مدني ثقة مات سنة 95]. فهذا السند صحيح، وفيه التصريح بأن هذا الجزء هو من قول معاوية.
ـ وأما حديث جابر بن سَمُرة فرواه مسلم من طريق جعفر بن أبي ثور عن جابر بن سمرة رضي الله عنه أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بصيام يوم عاشوراء ويحثنا عليه ويتعاهدنا عنده، فلما فـُرض رمضان لم يأمرنا ولم ينهنا ولم يتعاهدنا عنده. [جعفر بن أبي ثور ذكره ابن حبان في الثقات وقال عنه علي بن المديني مجهول]. سنده ليس بقوي، ولكنه لا بأس به في الشواهد.
ـ وأما حديث قيس بن سعد بن عبادة فرواه الطيالسي والبزار والنسائي في الكبرى عن شعبة عن الحكم بن عتيبة عن القاسم بن مخيمرة عن عمرو بن شرحبيل عن قيس بن سعد بن عبادة أنه قال: كنا نصوم عاشوراء ونعطي زكاة الفطر قبل أن ينزل علينا صوم رمضان والزكاة، فلما نزلا لم نـُؤمر بهما ولم نـُنه عنهما، وكنا نفعله. سنده صحيح.
ورواه ابن حنبل والبزار والنسائي في الكبرى والطبراني في الكبير من طرق عن سفيان الثوري عن القاسم بن مخيمرة عن أبي عمار الهمداني عريب بن حميد عن قيس بن سعد أنه قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيام يوم عاشوراء. [عريب بن حميد ثقة]، فإن كان في الإسناد علة فليست بقادحة.
ـ وروى ابن حنبل وغيره أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم تثبت مشروعية صيام عاشوراء والأمر به، من حديث أبي هريرة وجابر ومعاذ بن جبل وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن بدر الجهني ومحمد بن صيفي وأسماء بن حارثة.
ـ ولحكمة لا نعلمها فقد وقع مقتلُ سبطِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم الإمامِ الشهيد الحسينِ بن علي رضي الله عنهما في يوم عاشوراء، وعلى هذا فإن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، وإنا على فراقك ـ يا ريحانة رسول الله من الدنيا ـ لمحزونون.
هذا وقد وقفت على بعض الروايات في بعض كتب الشيعة الإمامية تدل على أن استحباب صيام يوم عاشوراء كان معروفا عندهم وأنهم كرهوه بعد ذلك لوع مقتل الإمام الحسين في مثل هذا اليوم:
جاء في كتاب الكافي للكليني:
عن أبي الجارود أنه قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: فرض الله عز وجل على العباد خمسا، ... ثم نزل الصوم، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا كان يومُ عاشوراء بعث إلى ما حوله من القرى فصاموا ذلك اليوم، فنزل شهر رمضان بين شعبان وشوال، ...  .
عن علي بن الحسين عليه السلام أنه قال: وأما الصوم الذي صاحبه فيه بالخيار فصوم يوم الجمعة والخميس و صوم البيض وصوم ستة أيام من شوال بعد شهر رمضان وصوم يوم عرفة وصوم يوم عاشوراء، فكل ذلك صاحبه فيه بالخيار إن شاء صام وإن شاء أفطر.
عن أبي جعفر عليه السلام أنه سئل عن صوم يوم عاشوراء فقال: صوم متروك بنزول شهر رمضان، والمتروك بدعة.
وأسانيد هذه الروايات عندهم ضعيفة.
ـ خلاصة المسألة أن حديث صيام يوم عاشوراء صحيح ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا يومٌ يُصام استحبابا لأن النبي صلى الله عليه وسلم صامه وأمر بصيامه، لكن ليس فيه شيء من مظاهر الفرح والتوسعة في المأكل والمشرب.
ومن قال بأن هذا الحديث هو من وضع الأمويين ومن شايعهم فكلامه مجانب للحقيقة المتواترة بالأسانيد الصحيحة.
والحمد لله رب العالين. 

الخميس، 16 أكتوبر 2014

حوار حول أحاديث فضائل الشام


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وإمام المرسلين، وعلى آله وأصحابه وإخوانه أجمعين.

وبعد، فقد تحدثت بكلمة متلفزة عن أحاديث فضائل الشام وقلت هي ضعيفة من حيث النظر في أسانيدها.
علق عدد من الإخوة باستغراب، وهذا من حقهم، وطالبوا بالدليل على ضعف تلك الأحاديث، لأنه لا يجوز أن نقبل قولا بغير دليل.
قبل أن أذكر شيئا عن الأدلة أحب أن أقول: اقرؤوا كتابي "أحاديث فضائل الشام" فقد ذكرت فيه هذه الأحاديث ودرست أسانيدها دراسة إسنادية فاحصة، على منهج أئمة علم الحديث النقاد الكبار كالإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبي حاتم وأبي زرعة والدارقطني وغيرهم، لا على مذهب المتساهلين.
من يدرس أسانيد تلك الروايات على مذهب المتساهلين فستكون النتيجة هي تصحيح كثير من تلك المرويات، ولكني لا أرى صحة هذا المنهج التساهلي.
وهذه بعض الأحاديث الواردة في فضائل الشام:

*
حديث "طوبى للشام إن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليها":
ـ هذا الحديث رواه أحمد وابن أبي شيبة والترمذي ويعقوب بن سفيان البسوي وابن حبان والطبراني في المعجم الكبير والحاكم وغيرهم من ثلاثة طرق عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الرحمن بن شِماسة عن زيد بن ثابت أنه قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقاع إذ قال: "طوبى للشام". قيل: ولم ذلك يا رسول الله؟. قال: "إن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليها". [يزيد بن أبي حبيب مصري ثقة مات سنة 128. عبد الرحمن بن شِمَاسة مصري وثقه العجلي ويعقوب بن سفيان وابن حبان في صحيحه، ومات سنة 101].
ـ اختلف الرواة عن يزيد بن أبي حبيب في كيفية تحمل عبد الرحمن بن شِماسة لهذا الحديث عن زيد بن ثابت وفي لفظ الأداء: فرواه يحيى بن أيوب عن يزيد بن أبي حبيب ولم يذكر السماع بين ابن شماسة وزيد رضي الله عنه، وقال "عن زيد بن ثابت"، وكذا رواه ابن لهيعة من ثلاثة طرق عنه عن يزيد بن أبي حبيب، ورواه ابن لهيعة من طريق ابن وهب عنه عن يزيد بن أبي حبيب، وقال في روايته "أنه سمع زيد بن ثابت أو حدثه من سمعه"، هكذا على الشك، ورواه عمرو بن الحارث عن يزيد بن أبي حبيب وقال في روايته "أنه سمع زيد بن ثابت".
فهل سمع ابن شماسة هذا الحديث من زيد بن ثابت أو حدثه به رجل عنه؟! أي هل كان عمرو بن الحارث هنا أضبط لهذه اللفظة من يحيى بن أيوب وابنِ لهيعة؟!.
ـ يرِد هنا أولا هذا السؤال: هل أدرك عبد الرحمن بن شِمَاسة زيدَ بن ثابت؟؟ وللإجابة لا بد من محاولة التعرف على سنة ولادة ووفاة ابن شِمَاسة وسنة وفاة زيد بن ثابت، ولا بد من معرفة سنـَوَات وفـَيَات مَن أدركهم ابن شِمَاسة:
أما عن النقطة الأولى فلا نعرف سنة ولادة عبد الرحمن بن شِمَاسة، وذكرت المصادر أنه مات سنة 101.
وأما زيد بن ثابت الأنصاري المدني ففي سنة وفاته اختلاف، ويبدو أنه مات سنة خمس وأربعين، هكذا قال التابعي المدني أبو الزناد عبد الله بن ذكوان رحمه الله، وهذا ما جزم به الإمام الذهبي في كتابه تاريخ الإسلام.
وأما عن النقطة الثانية فهذه سنـَوَات وفـَيَات من عرفت تواريخ وفياتهم من شيوخ ذلك التابعي: 58، 60، 62، 65، 73، 90.
ـ يستفاد مما تقدم أن عبد الرحمن بن شِمَاسة مات بعد زيد بن ثابت بأكثر من خمس وخمسين سنة، وأن زيدا أقدمُ وفاة من أقدم شيوخه وفاة بثلاث عشرة سنة، وهذه من القرائن على أنه لم يدركه.
ثم إن أبا حاتم الرازي ذكر أن عبد الرحمن بن شماسة روى عن زيد بن ثابت ولم يذكر سماعه منه، وذكر أنه روى عن عائشة، وأن هذا مرسل، وإذا كانت روايته ـ وهو مصري ـ عن عائشة التي توفيت بالمدينة سنة 58 مرسلة فروايته عن زيد بن ثابت الذي توفي بالمدينة سنة 45 مرسلة من باب أولى.
وبالتالي فإن عمرو بن الحارث قد وهِم في ذكر السماع، فالسند منقطع، والمنقطع ضعيف.
ومن أراد مزيدا من المناقشة فليقرأ البحث بتمامه في كتابي أحاديث فضائل الشام.

*
حديث "عليك بالشام"، أو "عليكم بالشام":
رُوي هذا الحديث من حديث عبد الله بن حوالة ورجلٍ عند معاوية بن أبي سفيان وواثلة بن الأسقع وأبي الدرداء والعرباض بن سارية، وله شواهد من حديث عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر ومعاوية بن حيدة وأبي أمامة وعبد الله بن يزيد ومن مرسل أبي قلابة ومرسل أبي طلحة دَرْع الخولاني:
ـ فأما حديث ابن حوالة فرواه أحمد في المسند وفي فضائل الصحابة وأبو داود وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني والطحاوي في مشكل الآثار وابن حبان والطبراني في مسند الشاميين والحاكم والبيهقي وابن عساكر في تاريخ دمشق وغيرهم، من أحد عشر طريقا عن عبد الله بن حوالة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ستـُجنـَّدون أجنادا، جندا بالشام وجندا بالعراق وجندا باليمن". فقمت فقلت: خِرْ لي يا رسول الله. فقال: "عليك بالشام، فمن أبى فليحلق بيمنه ولـْيَسْتـَقِ من غُدُره، فإن الله تبارك وتعالى قد تكفل لي بالشام وأهله".
[عبد الله بن حوالة قال فيه البخاري في التاريخ الكبير وأبو حاتم في الجرح والتعديل: له صحبة. وذكره ابن حبان في طبقة الصحابة من كتاب الثقات].
لكن مثل هذه الصحبة يذكرونها لكل من وجدوا له رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا القدر من الصحبة لم تتفق أقوال العلماء على أنه كافٍ في إثبات الصحبة المقتضية للعدالة. [كتبت مزيدا من التوضيح لهذه النقطة من علوم الحديث في كتابي متنزه الأنظار في شرح منتخب الأفكار].
فقد نقل الخطيب البغدادي في كتابه الكفاية في مبحث معرفة الصحابي عن الباقلاني رحمه الله أنه قال: [ومن الطريق إلى معرفة كونه صحابيا تظاهرُ الأخبار بذلك، وقد يُحكم بأنه صحابي إذا كان ثقة أمينا مقبول القول إذا قال "صحبتُ النبي صلى الله عليه وسلم"، فيُحكم بأنه صحابي في الظاهر لموضع عدالته وقبول خبره وإن لم يُقطع بذلك]. ولم يعترض عليه.
وقال ابن الصلاح في المقدمة والنووي في التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير والجعبري في رسوم التحديث وابن جماعة في المنهل الروي وابن كثير في اختصار علوم الحديث والأبناسي في الشذا الفياح والحافظ العراقي في شرح التبصرة والتذكرة رحمهم الله في مبحث معرفة الصحابي: "ثم إن كون الواحد منهم صحابيا تارة يُعرف بالتواتر، وتارة بالاستفاضة القاصرة عن التواتر، وتارة بأن يُروى عن آحاد الصحابة أنه صحابي، وتارة بقوله وإخباره عن نفسه - بعد ثبوت عدالته - بأنه صحابي".
فعبد الله بن حوالة لم تثبت صحبته، لا بالتواتر، ولا بالاستفاضة والشهرة، ولا بإخبار بعض الصحابة عنه أنه صحابي، فلم يبق إلا إخباره هو عن نفسه بذلك، وهذا لا يُقبل إلا إذا كانت عدالته ثابتة بغير ذلك الإخبار، ولم يذكر ابن حجر رحمه الله في كتاب الإصابة في ترجمة ابن حوالة هذا عن أحد ممن عاصروه كلمة واحدة في تزكيته والثناء عليه، ولا ما يدل على صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم سوى أنه روى عنه، وهذا ليس كافيا في إثبات الصحبة المقتضية للعدالة.
وبالتالي فهذا السند ليس بقوي، وبذلك يكون هذا الحديث ليس ثابتا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ـ وأما حديث الرجل الذي كان عند معاوية بن أبي سفيان فرواه الطبراني في مسند الشاميين ـ ومن طريقه ابن عساكر ـ من طريق صدقة بن عبد الله السمين، وهو ضعيف منكر الحديث.
ـ وأما حديث واثلة فرواه الطبراني في الكبير وفي مسند الشاميين وابن عساكر من طريق المغيرة بن زياد ومن طريق بكار بن تميم ومن طريق العلاء بن كثير، ورواه ابن الجوزي في العلل المتناهية من طريق محمد بن كثير الكوفي عن موسى بن عمير، أربعتهم عن مكحول عن واثلة بن الأسقع. [المغيرة بن زياد لين، وبكار بن تميم مجهول، والعلاء بن كثير منكر الحديث، ومثله محمد بن كثير وموسى بن عمير]. فالسند لين، ثم إنه لا يصح من حديث واثلة، لأن سعيد بن عبد العزيز ومكحول بن راشد وغيرهما رووه عن مكحول وجعلوه من مسند عبد الله بن حوالة، فرجع هذا الطريق إلى حديث ابن حوالة.
ـ وأما حديث أبي الدرداء فرواه البزار والطبراني في مسند الشاميين وعبد الجبار الخولاني في تاريخ داريا من طريق سليمان بن عتبة عن يونس بن ميسرة بن حلبس عن أبي إدريس الخولاني عن أبي الدرداء به مرفوعا. [سليمان بن عتبة صدوق فيه لين]. ثم إنه لا يصح من حديث أبي الدرداء، لأن مكحولا رواه عن أبي إدريس عن عبد الله بن حوالة، وطريق مكحول أقوى من طريق سليمان بن عتبة عن يونس بن ميسرة. فرجع هذا الطريق إلى حديث ابن حوالة.
ـ وأما حديث العرباض بن سارية فرواه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني والطبراني في الكبير من طريق فضالة بن شريك عن خالد بن معدان عن العرباض بن سارية. [فضالة بن شريك شاعر لم أجد له ترجمة في رجال الحديث]، فالسند ضعيف، وهو خطأ، والصواب ما رواه أحمد وأبو داود من طريق بَحير بن سعد عن خالد بن معدان عن أبي قـُتيلة مَرْثد بن وَدَاعة عن عبد الله بن حوالة، فرجع هذا الطريق إلى حديث ابن حوالة.
ـ وأما حديث ابن عباس فرواه الطبراني في الكبير ويعقوبُ بن سفيان من طريق يحيى بن سليمان المديني عن محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس. [يحيى بن سليمان المديني ضعفه العُقيلي، وقال عنه الذهبي: مجهول].
ـ وأما حديث ابن عمر فقد جاء عنه نصان فيهما هذا الحديث:
أما النص الأول عنه فرواه البزار والطبراني في الأوسط وفي مسند الشاميين وابن عساكر من طريق عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن أبي العوام عن عبد الله بن مساحق عن ابن عمر. [عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان صدوق فيه لين وتغير عقله في آخر حياته. أبو العوام سادن بيت المقدس لم أجد له ترجمة]. فهذا إسناد ضعيف.
وأما النص الثاني عن ابن عمر فرواه أحمد في مسنده وابن أبي شيبة والترمذي والبسوي في المعرفة والتاريخ وابنُ حبان من طريق سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر أنه قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ستخرج نار قبل يوم القيامة من بحر حضرموت"، أو "من حضرموت، تحشر الناس". قالوا: فبمَ تأمرنا يا رسول الله؟. قال: "عليكم بالشام". وهذا السند معلول، لأنه مما سمعه ابن عمر من كعب الأحبار، كما في الرواية التالية.
فقد رواه ابن أبي شيبة عن عبد الله بن نمير عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن كعب أنه قال: "يوشك نار تخرج من اليمن تسوق الناس، تغدو معهم إذا غَدَوا، وتقيل معهم إذا قالوا، وتروح معهم إذا راحوا، فإذا سمعتم فاخرجوا إلى الشام".
وحديث سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قد أعله من قبلُ إمامان من أئمة علم العلل، هما الإمام النـَّسائي والإمام الدارقطني.
ـ وأما حديث معاوية بن حيدة فرواه الطبراني في الكبير وابن عساكر من طريق حماد بن سلمة عن بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: عليكم بالشام.
ورواه ابن أبي شيبة وابن حنبل والترمذي والبسوي في المعرفة والتاريخ والروياني والحاكم وابن عساكر من ثمانية طرق عن بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه عن جده أنه قال: قلت: يا رسول الله خِرْ لي. فأومأ بيده نحو الشام.
فاللفظ الأول المصرح بقوله "عليكم بالشام" تفرد به حماد بن سلمة عن بهز بن حكيم، وهو معلول، لأنه مخالف لرواية الجماعة وهم ثمانية، واللفظ الثاني الذي رواه الجماعة ليس فيه سوى مجرد الإيماء نحو الشام، وقد رووه عن بهز بن حكيم، وبهز وإن وثقه بعض الأئمة فهو لا يُحتج به عند الشافعي وأبي حاتم الرازي وصالح جزرة، فلا يُستبعد أن تكون هذه الرواية مما وهم فيه.
وفي ذلك اللفظ من الغرابة أن الإشارة إلى جهة ما لا تعني إقليما أو بلدا بعينه، لأنها تشمل كل ما كان على خط تلك الجهة، فمن أين للراوي أن يفهم منه أن المراد هو الإقليم الشامي دون غيره؟!. فهذا الحديث ضعيف.
ـ وأما حديث أبي أمامة فرواه ابن حنبل ونعيم بن حماد في الفتن وابن عساكر من طريق لقيط بن المشاء ـ أو لقيط بن المثنى ـ عن أبي أمامة. [لقيط بن المثنى ذكره ابن حبان في الثقات وقال: يخطئ ويخالف]. فهذا السند ضعيف.
ـ وأما حديث عبد الله بن يزيد الخثعمي فرواه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني من طريق إسحاق بن إدريس عن أبان بن يزيد العطار عن يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابة عن عبد الله بن يزيد. [إسحاق بن إدريس بصري متروك الحديث] فهذا السند تالف.
ـ وأما مرسل التابعي أبي قلابة عبد الله بن زيد فقد رواه عبد الرزاق في المصنف وأحمد في فضائل الصحابة والطبري في التفسير من طريقين عن أبي قلابة عبد الله بن زيد مرفوعا مرسلا. والمرسل ضعيف.
وأبو قلابة هو من الرواة عن أبي إدريس الخولاني، وأبو إدريس سمعه من عبد الله بن حوالة، فيبدو أن أصله هو رواية ابن حوالة.
ـ وأما مرسل التابعي أبي طلحة دَرْع الخولاني فرواه الطبراني في الكبير من طريق حماد بن سلمة عن أبي سنان عيسى بن سنان عن أبي طلحة الخولاني مرفوعا مرسلا. [عيسى بن سنان فلسطيني سكن البصرة وهو ضعيف]. فالسند ضعيف، ثم هو مرسل، والمرسل ضعيف، فصار أشد ضعفا.
ـ درجة الحديث:
هذا الحديث من رواية عبد الله بن حوالة: ليس بثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، لأن ابن حوالة هذا لا يوجد ما يثبت له الصحبة المقتضية للعدالة.
وروايات الرجل الذي عند معاوية وواثلة بن الأسقع وأبي الدرداء والعرباض بن سارية ترجع إلى رواية ابن حوالة.
والحديث من رواية عبد الله بن عباس: فيه يحيى بن سليمان المديني، ضعفه العُقيلي وقال عنه الذهبي مجهول.
والحديث من رواية عبد الله بن عمر له عنه نصان: الأول منهما فيه عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، وهو صدوق فيه لين وتغير عقله في آخر حياته، وفيه أبو العوام سادن بيت المقدس ولم أجد له ترجمة. والثاني منهما معلول، وهو مما رواه ابن عمر عن كعب الأحبار وليس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن رواية معاوية بن حيدة ورد بلفظ "عليكم بالشام"، وورد بلفظ "وأشار بيده نحو الشام"، والأول معلول، لمخالفته لثمانية طرق ليس فيها هذا التصريح، والثاني هو مجرد إشارة إلى جهةٍ ما فهمَ منها الراوي أنها إلى الشام، وهذا غير كاف في الدلالة. ثم إن اللفظين هما من طريق بهز بن حكيم، وهو وإن وثقه جماعة من الأئمة فقد قال فيه ثلاثة آخرون لا يُحتج به.
ومن رواية أبي أمامة فيه لقيط بن المثنى لم أجد فيه سوى أن ذكره ابن حبان في الثقات وقال: يخطئ ويخالف.
ومن رواية عبد الله بن يزيد الخثعمي: فيه إسحاق بن إدريس، وهو متروك الحديث.
ومرسل أبي قلابة من المراسيل، والمرسل ضعيف، فضلا عن أن أبا قلابة قد حمل العلم عمن سمع هذا الحديث من ابن حوالة.
وهو من مرسل أبي طلحة دَرْع الخولاني فيه عيسى بن سنان وهو ضعيف.
يتبين من هذا العرض أن حديث "عليكم بالشام" طرقه ضعيفة، وأنها لا ترتقي لدرجة الحسن.

* هذه بعض النماذج من دراسة أسانيد تلك الروايات، فمن كان عنده علم فليخرجه لنا، مشكورا مأجورا إن شاء الله.

*
 بعد الجولة الواسعة في أحاديث فضائل الشام ودراسة أسانيدها وطرقها وبيان ضعفها وإعلالها بإيجاز فإنه لا بد من الإشارة إلى مسألة هامة، وهي اعتراض وجواب.
سيقول كثير ممن درسوا علوم الحديث في كتب المتأخرين: هذه الأحاديث ـ وإن سلمنا بضعف آحادها وبإعلالها ـ فهي متواترة، والمتواتر مقطوع بصحته فضلا عن كونه صحيحا!، فهي ـ في أدنى الدرجات ـ لا تنزل عن مرتبة الصحيح لغيره!.
وأقول في الجواب:
لا ارتباط بين صحة الحديث وعدد الطرق التي رُوي بها، لأن مجرد كثرة الطرق لا تفيد الصحة.
وقد أشار الإمام أحمد ابن حنبل عليه رحمة الله إلى هذا المعنى إذ قال: "يطلبون حديثاً من ثلاثين وجهاً!! أحاديثُ ضعيفة". وجعل ينكر طلب الطرق نحو هذا وقال: "شيء لا ينتفعون به".
والذي أقول به وأؤكده هو أنه لا ارتباط بين عدد الطرق التي يُروى بها الحديث وبين الصحة، فقد يكون للحديث عشرة طرق أو عشرون أو ثلاثون ويبقى ضعيفا، وقد يكون له طريق واحد ويكون صحيحا، والمعوَّل عليه هو عدالة الرواة وضبطهم مع اتصال السند وسلامة الحديث من العلل ومن الشذوذ.
ولو نظرنا إلى مجرد كثرة الطرق من مثل ما تقدم ـ بقطع النظر عن الإعلال والشذوذ ـ فما من شك في أننا نصحح أصل المسألة، وهي أن النبي صلى عليه وسلم قد أخبر بأن للشام فضلا خاصا لا تدانيها فيه سائر بلاد الله، ولكن لا بد من وقفة تأمل عند القرائن التي تحول دون ذلك.
فمن تلك القرائن أن كثيرا من تلك الروايات المروية في فضل الشام هي مروية كذلك عن كعب الأحبار:
فقد رُوي عن كعب أنه قال: "أحب البلاد إلى الله تعالى الشام، وأحب الشام إلى الله تعالى القدس، وأحب القدس إلى الله تعالى جبل نابلس".
ورُوي عن كعب أنه قال: "عليك بالشام، فإنه ما نقص من بركة الأرضين يُزاد بالشام".
ورُوي عن كعب أنه قال: "إني لأجد في كتاب الله المنزل أن خراب الأرض قبل الشام بأربعين عاما".
ورُوي عن كعب أنه قال: "يوشك نار تخرج من اليمن تسوق الناس، تغدو معهم إذا غَدَوا، وتقيل معهم إذا قالوا، وتروح معهم إذا راحوا، فإذا سمعتم فاخرجوا إلى الشام".
ورُوي عن كعب أنه قال: "معقل المسلمين من الملاحم دمشق، ومن الدجال نهر أبي فـُطـْرُس، ومن يأجوج ومأجوج الطور".
ورُوي عن كعب أنه قال: "دمشق معقل المسلمين من الروم، ومربض ثور فيها أفضل من دار عظيمة بحمص، ومن أراد النجاة من الدجال فنهر أبي فطرس، وإن أردت منزل الخلفاء فعليك بدمشق، وإن أردت الجهد والجهاد فعليك بحمص".
ورُوي عن كعب أنه قال: "كل بناء يبنيه العبد في الدنيا يُحاسب به يوم القيامة إلا بناء في دمشق".
ورُوي عن كعب أنه قال: "إني أجد في كتاب الله المنزل أن الشام كنز الله من أرضه وبها كنزه من عباده".
ورُوي عن كعب أنه كان يقول: "يا أهل الشام، إن الناس يريدون أن يضعوكم والله يرفعكم، والله تعالى يتعاهدكم كما يتعاهد الرجل نبله في كنانته، لأنها أحب أرضه إليه، يسكنها أحب خلقه إليه، من دخلها مرحوم، ومن خرج منها فهو مغبون".
ورُوي عن كعب أنه قال: "مكتوب في التوراة إن الشام كنز الله عز وجل يسكنها كنزه من عباده".
ورُوي عن كعب أنه قال: "الخير عشرة أجزاء، فتسعة أجزاء الخير في الشام، وجزء في سائر الأرضين".
ورُوي عن كعب أنه قال: "أهل الشام سيف من سيوف الله، ينتقم الله بهم ممن عصاه في أرضه".
ورُوي عن كعب أنه قال: "ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام عند المنارة البيضاء شرقي دمشق".
ورُوي عن كعب أنه قال: "يهبط المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام عند القنطرة البيضاء على باب دمشق الشرقي إلى طرف الشجر، تحمله غمامة، واضع يديه على منكب ملكين، عليه ريطتان، مؤتزر بإحداهما مرتد بالأخرى، إذا أكبَّ رأسه قطر منه كالجمان، فيأتيه اليهود فيقولون: نحن أصحابك. فيقول: كذبتم. ثم يأتيه النصارى فيقولون: نحن أصحابك. فيقول: كذبتم، بل أصحابي المهاجرون بقية أصحاب الملحمة. فيأتي مجمعَ المسلمين حيث هم، فيجد خليفتهم يصلي بهم، فيتأخر للمسيح حين يراه، فيقول: يا مسيح الله صل لنا. فيقول: بل أنت فصل لأصحابك، فقد رضي الله عنك، فإنما بُعثتُ وزيرا ولم أبعث أميرا. فيصلي لهم خليفة المهاجرين ركعتين مرة واحدة وابن مريم فيهم، ثم يصلي لهم المسيح بعده وينزع خليفتهم".
ورُوي عن كعب أن رجلا لقيه فسلم عليه ودعا له، فسأله كعب ممن هو؟ قال: من أهل الشام. قال: لعلك من الجند الذين يدخل الجنة منهم سبعون ألفا بغير حساب ولا عذاب. قال: ومن هم؟. قال: أهل حمص. قال: لستُ منهم. قال: فلعلك من الجند الذين يُعرفون في الجنة بالثياب الخضر. قال: ومن هم؟. قال: أهل دمشق. قال: لست منهم. قال: فلعلك من الجند الذين هم تحت ظل عرش الرحمن. قال: ومن هم؟. قال: أهل أردن. قال: لست منهم. قال: فلعلك من الجند الذين ينظر الله إليهم في كل يوم مرتين. قال: ومن هم؟. قال: أهل فلسطين. قال: نعم أنا منهم.
ورُوي عن كعب أنه كان يقول في مقبرة باب الفراديس: "يُبعث منها سبعون ألف شهيد، يشفع كل إنسان في سبعين".
ورُوي عن كعب أنه قال: "أجد في التوراة: عبدي أحمد المختار، لا فظ ولا غليظ، مولده مكة ومهاجره المدينة وملكه بالشام".
ورُوي عن كعب في تاريخ دمشق أنه قال: "إن الله تبارك وتعالى بارك في الشام من الفرات إلى العريش".  
ورُوي عن كعب في تاريخ دمشق أنه قال: "تعال حتى أريك موضعا في هذا المسجد مسجد دمشق من صلى فيه فكأنما صلى في بيت المقدس".
ورُوي عن كعب في تاريخ دمشق أنه قال في تفسير قول الله تعالى {والتين والزيتون}: "التين مسجد دمشق والزيتون بيت المقدس".
ورُوي عن كعب في تاريخ دمشق أنه قال: "خمس مدائن من مدائن الجنة: بيت المقدس وحمص ودمشق وبيت جبرين وظفار اليمن".
ورُوي عن كعب في تاريخ دمشق أنه قال: "قـُدست ميسرة الشام مرتين وقـُدست سائر الشام مرة واحدة".
فهذه الروايات الكثيرة التي يرويها كعب الأحبار مشيرًا إلى أنها في صحف أهل الكتاب تثير الشك وتدعو إلى التوقف، وهذا ما وصلنا منها، وأما ما لم يصل فالله أعلم به، فهل هي أصل كل تلك الروايات التي ينسُبها الرواة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!. الله أعلم.

*
 وفي الختام هذه بعض الملحوظات السريعة:
ـ بعض الناس يسيؤون الظن، ويقولون ما ليس لهم به علم، وأذكرهم وأذكر نفسي بالموقف المهيب يوم القيامة بين يدي العظيم الجليل، وهو القائل تبارك وتعالى {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن، إن بعض الظن إثم}.
ـ قال بعض الإخوة: هذه الأحاديث كلها صحيحة. وقال بعض الإخوة: هذه الأحاديث أنا تابعتها وتحققت منها، وكلها كانت صحيحة.
أقول: القائل أدرى بنفسه، إما أن يكون مجتهدا في هذا الباب وإما أن يكون مقلدا لغيره، فإن كان مجتهدا فعليه أن يقابل الحجة بالحجة، وإن كان مقلدا فليقلد من يغلب على ظنه أنه أعلم، ولكن لا يجوز له الجزم بتخطئة غيره من أهل العلم، وقد قال الله جل وعلا {أتقولون على الله ما لا تعلمون}.
وهذا يعني أن العبد مسؤول عن كل كلمة قالها، وخاصة فيما يتعلق بدين الله عز وجل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب".
ـ قال بعض الإخوة: إن كان هذا الكلام صحيحا فلم الآن ولمَ لمْ يكن من قبل؟.
أقول: هل سألتني عنها من قبلُ وكتمتُ عنك العلم؟!، ثم إن نشر العلم مطلوب ومرغب فيه في كل وقت، ولا يتقيد نشره بزمان دون زمان ولا مكان دون مكان.
ـ قال بعض الإخوة: الشام صفوة بلاد الله في الأرض رغم أنف الجميع.
أقول: تمنيت أنك ذكرت مكة المكرمة أو المدينة المنورة أو إقليم الحجاز الذي جمع هاتين المدينتين المباركتين، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الشام صفوة بلاد الله في الأرض.
ـ قال بعض الإخوة: ما الهدف من الطعن بأحاديث فضائل الشام؟.
أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار".
ـ لقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "اللهم بارك لنا في شامنا ويمننا"، والظاهر أنه دعا لإقليم الحجاز شامه ويمنه، ولم يقل "الله بارك لأهل الشام واليمن في شامهم ويمنهم".
ـ قال بعض الإخوة: ما سمعنا أحدا من العلماء طعن بهذه الأحاديث!.
أقول: ليس من شرط صحة العلم أن يكون مما سمعه الناس اليوم، ولكن من شرطه أن يكون مؤسسا على القواعد التي وضعها الأئمة العلماء الكبار في عصور السلف الصالحين.
ـ قال أحد الإخوة: ثم فلنفترض أنها أحاديث ضعيفة والناس تشتمُّ من خلالها رائحة الأمل، والناس تريد شيئا يريحها و يطمئنها، فهل القضاء على نوافذ الأمل سنة مستحبة في ظل هذه الأمواج المدلهمة؟!، وهل وظيفتنا زرع الذعر والخوف في قلوب الناس؟!.
أقول: إذا كانت هذه الأحاديث التي عاش الناس من خلالها على الأمل ضعيفة حقا فلا بد من البيان، للأسباب التالية:
لا ينفعنا العيش على أمل غير مبني على حقائق.
هذه الأحاديث ـ مع الأسف الشديد ـ زرعت في الكثيرين من أهل الشام روح التواكل، لأن تلك الروايات تقول لهم "طوبى للشام إن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليها"، وتقول لهم "إن الله قد تكفل بالشام وأهله"، فيعلق أحد التابعين الصلحاء رحمه الله "ومن تكفل الله به فلا ضيعة عليه"!!.
وربما زرعت في قلوب بعضهم الغرور.
الواجب علينا ـ معشر أهل الشام ـ أن ننفض عنا غبار الكسل والتواكل، وأن نشمر عن ساعد الجد والعمل، وعلينا أن نعلم أن لله في خلقه سننا كونية ربانية يجب العمل من خلالها، وأننا لسنا مميزين عن غيرنا، فما نحن إلا بشر ممن خلق، فينا الصالحون وفينا الطالحون.
أسأل الله العلي العظيم أن يجمعنا على الحق والهدى والتقى، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يسدد خطانا، وأن يكشف عنا هذه الغمة، وأن يرفع الكرب والشدائد عن أمة محمد أجمعين، بفضله ومنه وكرمه.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 18/ 12/ 1435، الموافق 12/ 10/ 2014.