الأحد، 31 أغسطس 2014

حديث "إن أُخِّرَ هذا فلن يدركه الهرم حتى تقوم الساعة"



بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
وبعد، فحديث "إن أُخِّرَ هذا فلن يدركه الهرم حتى تقوم الساعة" رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما مع الإشارة ـ على طريقتهما ـ إلى الخلل الذي وقع في لفظه، ويقول العلماء المتأخرون في مثل هذا رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما ويسكتون عما وراء ذلك، ويقولون ـ غالبا ـ إن كل الألفاظ المروية في الصحيحين صحيحة!، وهذا مبْلغهم من العلم، ونحن اليوم نجني نتائج التقصير في دراسة أسانيد تلك الأحاديث المروية عن رسولنا صلى الله عليه وسلم.
ويرى كل ذي عينين أن هذه الرواية تخالف الواقع المُشاهَد، فقد عاش ذلك الغلام ومات ومات بعده أجيال وأجيال ولم تقم الساعة حتى الآن.
تجرأ الطاعنون ـ بسبب ذلك ـ وقالوا إن هذا الحديث مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا إن الشيخين مقصران في إيراد أمثال هذه الروايات الموضوعة في الصحيحين.
ـ أقول مستعينا بالله تعالى: كثيرا ما يروي الشيخان البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى الحديث في الصحيحين من عدة طرق بألفاظ متعددة، وقد تكون متخالفة، ومن المعلوم البيِّن أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل تلك الألفاظ المتعددة كلها، وإنما قال واحدا وجاء سائرها من باب الرواية بالمعنى، وقد يكون اللفظ المروي بالمعنى هو على المعنى ذاته، وربما تغير أو انقلب فيه المعنى، وهذا يعني أنه ليست كل رواية في الصحيحين صحيحة حتى وإن كان أصل الحديث صحيحا.
والظاهر أن الشيخين عندما يرويان الحديث بعدة روايات فإنهما لا يرَيان صحتـَه بكل الألفاظ التي رُوي بها، وأنهما يعلمان أن اللفظ في إحدى الروايات هو الصحيح وأن ما عداه من الألفاظ مروي بالمعنى وإن كان مما تغير فيه المعنى.
* حديث "إن أُخِّرَ هذا فلن يدركه الهرم حتى تقوم الساعة":
هذه الرواية أصلها صحيح، ولكنها ليست صحيحة بهذا اللفظ وبيان ذلك فيما يلي:
في هذه المسألة حديثان ـ من حيث الظاهر ـ مرويان عن عائشة أم المؤمنين وأنس بن مالك رضي الله عنهما:
ـ فأما حديث عائشة فرواه البخاري ومسلم وابن أبي شيبة في المصنف وابن أبي داود في مسند عائشة من طريق عبدة بن سليمان وحماد بن أسامة عن هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان رجال من الأعراب جفاة يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسألونه متى الساعة، فكان ينظر إلى أصغرهم فيقول: "إن يعشْ هذا لا يدركه الهرم حتى تقوم عليكم ساعتكم".
وهذا الحديث يخبرهم أنه إن يعشْ هذا الغلام فإنه لا يدركه الهرم حتى تقوم عليكم ساعتكم أنتم، وهذا قيام الساعة الذي ينبغي للإنسان العاقل أن يهتم به، وأما قيام الساعة الذي يعني انقضاء الدنيا فمما لا ينبغي أن يشغل المرء به نفسَه، فهذا الحديث صحيح سندا ومتنا.
ـ وأما حديث أنس فرواه البخاري ومسلم وابن حنبل من طريق قتادة عن أنس أن رجلا من أهل البادية أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله متى الساعة قائمة؟. فمر غلام للمغيرة وكان من أقراني فقال: "إن أُخِّرَ هذا فلن يدركه الهرم حتى تقوم الساعة". ورواه مسلم وابن حنبل وأبو يعلى وأبو نعيم في معرفة الصحابة من أربعة طرق أخرى عن أنس به نحوه، ورواه مسلم وابن حنبل وعبد بن حُميد وابن حبان من طريق ثابت البُناني عن أنس، ولفظه "إن يعشْ هذا الغلام فعسى أن لا يدركه الهرم حتى تقوم الساعة".
ـ الظاهر من حديثي عائشة وأنس أنهما يتحدثان عن قصة واحدة، فينبغي أن يكون اللفظ النبوي فيهما واحدا، خلافا لمن يجعل مثل هذا حديثين في واقعتين.
وحيث اختلف فيهما اللفظان اختلافا بعيدا فلا بد من البحث عن ترجيح أحدهما، ورواية عائشة رضي الله عنها هنا هي الأقرب للصواب، لأنها مشتملة على أمر فيه شيء من الخفاء، وهو جواب من سألوا عن قيام الساعة بما يدل على قيام ساعتهم هم، ومن المستبعد أن يكون أصل الحديث فيه الظهور التام فينقله أحد الرواة إلى ما فيه شيء من الخفاء من باب الرواية بالمعنى، بخلاف العكس.
وإذا كان ذلك كذلك فحديث أنس منقول بالمعنى، أي إن أنسا لم يضبط اللفظ، ولعله نسي لطول عهده به.
وإنما كان الحمل في الرواية بالمعنى هنا على أنس نفسه لأنه رواه عنه بذلك جماعة من الثقات، فتبين أن الحمل فيها عليه وليس على من دونه.
ـ هذا وقد نبه العلماء السابقون على أن حديث أنس لا يصح أن يُفهم على ظاهره، وتأولوه:
قال القاضي عياض فيما نقله عنه النووي في شرح صحيح مسلم: هذه الروايات كلها محمولة على معنى الأول، والمراد بساعتكم موتهم، ومعناه يموت ذلك القرن أو أولئك المخاطبون.
وقال الكرماني فيما نقله عنه العيني في عمدة القاري في توجيه هذا الخبر: هذا تمثيل لقرب الساعة ولم يرد منه حقيقته.
وقال ابن كثير في كتاب التفسير: وهذا الإطلاق في هذه الروايات محمول على التقييد ب"ساعتكم" في حديث عائشة رضي الله عنها.
ـ وههنا أمر هام ينبغي لفت النظر إليه:
فقد روى الإمام البخاري رحمه الله حديث عائشة في صحيحه في كتاب الرقاق، في باب سكرات الموت، وروى حديث أنس في كتاب الأدب، في باب ما جاء في قول الرجل ويلك.
الحديث عن قيام الساعة له ارتباط واضح بكتاب الرقاق، حيث إن التنبه لقرب قيام الساعة من مرققات القلوب.
لكن ما مناسبة الحديث لباب ما جاء في قول الرجل ويلك من كتاب الأدب؟!، وجه المناسبة هو لفظة وردت في الحديث، حيث إن نصه بتمامه عنده هو: عن أنس أن رجلا من أهل البادية أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله متى الساعة قائمة؟. قال: "ويلك وما أعددت لها؟". قال: ما أعددت لها إلا أني أحب الله ورسوله. قال: "إنك مع من أحببت". فقلنا: ونحن كذلك؟. قال: "نعم". ففرحنا يومئذ فرحا شديدا، فمر غلام للمغيرة وكان من أقراني، فقال: "إن أخر هذا فلن يدركه الهرم حتى تقوم الساعة".
أشار البخاري بهذا التوزيع على الأبواب إلى ثبوت اللفظ الأول المروي عن عائشة وأنه هو الصحيح، لأنه رواه في الموضع المناسب له، وإلى عدم ثبوت اللفظ الثاني المروي عن أنس وأنه ليس بصحيح، لأنه رواه في الموضع غيرِ المناسب له، وهذا ملحظ قد يغفـُل عنه كثيرون.
أما الإمام مسلم رحمه الله فإنه يروي في صحيحه الروايات المتعددة للحديث في موضع واحد، ويقدم الأسلم من الروايات على ما وقع فيه خلل، ونجده هنا قدم حديث عائشة على حديث أنس، وقد أشار بهذا الترتيب إلى ثبوت اللفظ الأول المروي عن عائشة وأنه هو الصحيح، لأنه قدمه على غيره، وإلى عدم ثبوت اللفظ الثاني المروي عن أنس وأنه ليس بصحيح، لأنه أخره عن غيره.
ـ خلاصة القول هي أن حديث أنس غير ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ، وأن أصله هو اللفظ الوارد في حديث عائشة، وأن ما وقع له من تغيير هو بسبب الرواية بالمعنى مع الغفلة عن ضبط المعنى، وأن البخاري ومسلما رحمهما الله روياه في الصحيحين وضمَّنا كتابيهما الإشارة إلى إعلاله باللفظ الذي رُوي به.
وكتبه صلاح الدين بن أحمد الإدلبي في 19/ 4/ 1435، الموافق 19/ 2/ 2014، والحمد لله رب العالمين.





الخميس، 14 أغسطس 2014

حديث "إذا رأيتم الرايات السود فالزموا الأرض"

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وإمام المرسلين، وعلى آله وأصحابه وإخوانه أجمعين.                                         
                                          حديث "إذا رأيتم الرايات السود فالزموا الأرض"

رواه نـُعيم بن حماد في كتاب الفتن عن الوليد بن مسلم ورشدين بن سعد عن عبد الله بن لهيعة عن أبي قبيل عن أبي رومان عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: "إذا رأيتم الرايات السود فالزموا الأرض، فلا تحركوا أيديكم ولا أرجلكم، ثم يظهر قوم ضعفاء لا يُؤبه لهم، قلوبهم كزبر الحديد، هم أصحاب الدولة، لا يفون بعهد ولا ميثاق، يدعون إلى الحق وليسوا من أهله، أسماؤهم الكنى، ونسبتهم القرى، وشعورهم مرخاة كشعور النساء، حتى يختلفوا فيما بينهم، ثم يؤتي الله الحق من يشاء".

[عبد الله بن لهيعة صدوق يدلس ويُلقن. أبو قبيل مصري ثقة فيه لين مات سنة 128. أبو رومان ذكره ابن منده في الكنى ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا فهو مجهول].

وهذا حديث موقوف سنده تالف ومتنه منكر.


حديث "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم تكون ملكا عاضا، ثم تكون ملكا جبرية، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة"


بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر وأعن وتمم بالخير يا كريم

حديث "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم تكون ملكا عاضا، ثم تكون ملكا جبرية، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة"

رُوي هذا الحديث من رواية أبي عبيدة بن الجراح وعبد الله بن عباس وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهم:

ـ فأما حديث أبي عبيدة بن الجراح فرواه البزار والطبراني في الكبير وفي مسند الشاميين عن جماعة عن يحيى بن حمزة عن أبي وهب عبيد الله بن عبيد عن مكحول عن أبي ثعلبة الخشني عن أبي عبيدة بن الجراح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن أول دينكم نبوة ورحمة، ثم تكون خلافة ورحمة، ثم تكون ملكا وجبرية، يُستحل فيها الدم". وهو عند الطبراني في الكتابين من مسند أبي ثعلبة، ليس فيه "عن أبي عبيدة".
[يحيى بن حمزة دمشقي صدوق ثقة مات سنة 183. أبو وهب عبيد الله بن عبيد دمشقي صدوق مات سنة 132. مكحول دمشقي صدوق ثقة وكان يرسل، مات سنة 113، سمع من أنس بن مالك وواثلة بن الأسقع وأبي هند الداري من الصحابة، وروايته عن أبي ثعلبة مرسلة. أبو ثعلبة الخشني صحابي نزل الشام وجزم ثمانية من الأئمة بأنه مات سنة 75]. فهذا الطريق ضعيف لانقطاعه.

ـ ورواه أبو داود الطيالسي وابن أبي عاصم في السنة وأبو يعلى والبيهقي في السنن وفي الدلائل والطبراني في الكبير وأبو نعيم في معرفة الصحابة من طرق عن ليث بن أبي سُليم عن عبد الرحمن بن سابط عن أبي ثعلبة الخشني عن أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل مرفوعا به نحوه. [ليث بن أبي سُليم كوفي ضعيف لاختلاطه ومات سنة 142. عبد الرحمن بن سابط مكي ثقة كان يرسل ومات سنة 118، والظاهر أن روايته عن أبي ثعلبة الخشني مرسلة، ولم يصرح في كل تلك المصادر بما يدل على السماع]. فهذا الطريق ضعيف.

ـ ورواه الطبراني في الكبير وأبو نعيم الأصبهاني في معرفة الصحابة عن محمد بن عبد الله الحضرمي عن أبي كريب عن فردوس بن الأشعري عن مسعود بن سليمان عن حبيب بن أبي ثابت عن رجل من قريش عن أبي ثعلبة عن أبي عبيدة بن الجراح وبشير بن سعد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن فيكم النبوة، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم يكون ملكا وجبرية". [محمد بن عبد الله الحضرمي مطين وأبو كريب ثقتان. فردوس بن الأشعري ذكره ابن حبان في الثقات. مسعود بن سليمان مجهول]. وفي السند كذلك رجل مبهم، فهذا الطريق تالف.

ـ ورواه نعيم بن حماد عن يحيى بن سعيد العطار عن أيوب بن خوط عن قتادة عن أبي ثعلبة عن أبي عبيدة مرفوعا به. وهذا الطريق تالف. [يحيى بن سعيد العطار منكر الحديث. أيوب بن خوط متروك الحديث]. فهذا الطريق تالف.

ـ ورواه نعيم بن حماد عن عبد القدوس بن الحجاج الخولاني عن صفوان بن عمرو عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبي عبيدة بن الجراح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أول هذه الأمة نبوة ورحمة، ثم خلافة ورحمة، ثم ملكا عضوضا". رواته ثقات، لكن عبد الرحمن بن جبير مات بعد أبي عبيدة بمئة عام، فهذا الطريق ضعيف لانقطاعه.
ورواه نعيم بن حماد عن بقية بن الوليد عن صفوان بن عمرو به بلفظ "ثم ملكا عضوضا وفيه رحمة"، ويبدو أن الحديث بزيادة لفظة الرحمة مع الملك العضوض هو مما سمعه بقية بن الوليد من سعيد بن سنان الحمصي، حيث إن سعيد بن سنان هو أحد من روى رواية "ثم ملكا ورحمة"، كما سيجيء في الرواية الموقوفة على عمر، وهو منكر الحديث، فلا يستبعد أن يروي مثلها بهذا الإسناد كذلك، وبقية كثير التدليس عن الضعفاء وهو من الرواة عن سعيد بن سنان، فالظاهر أنه مما سمعه منه ودلسه عنه.

ـ وأما حديث ابن عباس فرواه الطبراني في الكبير عن أحمد بن النضر العسكري عن سعيد بن حفص النفيلي عن موسى بن أعين عن أبي شهاب عن فطر بن خليفة عن مجاهد عن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أول هذا الأمر نبوة ورحمة، ثم يكون خلافة ورحمة، ثم يكون ملكا ورحمة، ثم يكون إمارة ورحمة، ثم يتكادمون عليه تكادم الحُمُر، فعليكم بالجهاد، وإن أفضل جهادكم الرباط، وإن أفضل رباطكم عسقلان".

[أحمد بن النضر العسكري وثقه ابن المنادي، مات سنة 290. سعيد بن حفص النفيلي الحراني ثقة تغير في آخر عمره مات سنة 237. موسى بن أعين الجزري الحراني ثقة مات سنة 177. أبو شهاب: يحتمِل أن يكون أبا شهاب الحناط، وهو عبد ربه بن نافع كوفي صدوق ثقة فيه لين ومات سنة 171، ويحتمِل أن يكون أبا شهاب مسروح بن عبد الرحمن، وهذا مجهول أو ضعيف. فطر بن خليفة كوفي ثقة فيه لين مات سنة 155. مجاهد بن جبر مكي ثقة مات سنة 103. عبد الله بن عباس صحابي مات سنة 68].

ومن الواضح أن أصل هذه الرواية هو الفقرتان الأُولـَيَان "أولُ هذا الأمر نبوة ورحمة، ثم يكون خلافة ورحمة"، وأن ما بعد ذلك تخليط.
وهذا التخليط إما أن يكون من أبي شهاب مسروح إذا كان هو راويَه، ولعل هذا هو الأظهر، أو من سعيد بن حفص إذا كان روى الحديث حالة تغيره، أو من أحمد بن النضر العسكري، إذ لم أجد من وثقه سوى ابن المنادي.

ورُوي نحوٌ من حديث ابن عباس عن عمر موقوفا عليه، وذلك ما رواه نعيم بن حماد من طريق سعيد بن سنان الحمصي عن أبي الزاهرية عن كثير بن مرة أبي شجرة الحضرمي عن ابن عمر عن عمر أنه قال: إن الله بدأ هذا الأمر يوم بدأه نبوة ورحمة، ثم يعود خلافة ورحمة، ثم سلطانا ورحمة، ثم ملكا ورحمة، ثم يعود خلافة ورحمة، ثم سلطانا ورحمة، ثم ملكا ورحمة، ثم جبروت صلعاء، يتكادمون عليها تكادم الحمير. [سعيد بن سنان حمصي من الصالحين إلا أنه منكر الحديث وأحاديثه بواطيل، ومات سنة 168].

وروى الحاكم نحوه كذلك من طريق عبد العزيز بن عبد الله بن حمزة بن صهيب عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن جده عمر بن الخطاب به. [عبد العزيز بن عبد الله بن حمزة بن صهيب منكر الحديث]. فالحديث الموقوف على عمر تالف بطريقيه.

ـ وأما حديث حذيفة فرواه ابن أبي شيبة في مسنده ـ كما في إتحاف الخيرة المهرة ـ: قال حدثنا زيد بن الحباب قال حدثنا العلاء بن المنهال الغنوي قال حدثنا مهند القيسي وكان ثقة قال حدثني قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن حذيفة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنتم في نبوة ورحمة، وستكون خلافة ورحمة، وتكون ملكا عضوضا". ورواه الطبراني في الأوسط من طريق ابن أبي شيبة به، وابنُ الأعرابي في المعجم من طريق زيد بن الحباب به.
[زيد بن الحباب أبو الحسين العكلي كوفي صدوق يخطئ في حديث الأعمش ومات سنة 203. العلاء بن المنهال كوفي ثقة فيه لين. مهند بن هشام القيسي كوفي وثقه الراوي عنه العلاء بن المنهال, وذكره ابن حبان في الثقات. قيس بن مسلم كوفي ثقة مات سنة 120. طارق بن شهاب كوفي ثقة رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه، ومات سنة 82. حذيفة بن اليمان صحابي نزل الكوفة ومات سنة 36]. فهذا سند جيد.

ـ ورواه نعيم بن حماد عن عبد الله بن وهب عن عبد الله بن لهيعة عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن حذيفة به مرفوعا. [ابن وهب ثقة، وروايته عن ابن لهيعة أعدل من رواية غيره عنه. ابن لهيعة صدوق يدلس ويُلقن. خالد بن يزيد مصري ثقة مات سنة 139. سعيد بن أبي هلال ثقة فيه لين مات سنة 144 وعاصر صغار التابعين، فهو لم يدرك حذيفة]. فهذا الطريق ضعيف.

ـ ورواه ابن حنبل في مسنده قال: حدثنا سليمان بن داود الطيالسي: حدثني داود بن إبراهيم الواسطي: حدثني حبيب بن سالم عن النعمان بن بشير أنه قال: كنا قعودا في المسجد، وكان بشير رجلا يكف حديثه، فجاء أبو ثعلبة الخشني فقال: يا بشير بن سعد أتحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمراء؟. فقال حذيفة: أنا أحفظ خطبته. فجلس أبو ثعلبة، فقال حذيفة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضا، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبرية، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة". ثم سكت. قال حبيب: فلما قام عمر بن عبد العزيز وكان يزيد بن النعمان بن بشير في صحابته كتبت إليه بهذا الحديث أذكره إياه، فقلت له: إني أرجو أن يكون أمير المؤمنين ـ يعني عمر ـ بعد الملك العاض والجبرية. فأدخلَ كتابي على عمر بن عبد العزيز، فسُرَّ به وأعجبه.
ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده، ورواه البزار من طريق يعقوب بن إسحاق الحضرمي عن داود بن إبراهيم الواسطي به. [حبيب بن سالم مولى النعمان بن بشير وكاتبه، ثقة فيه لين. النعمان بن بشير صحابي قتل سنة 65].

لكن من هو داود بن إبراهيم الواسطي؟:

قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل: داود بن إبراهيم قاضي قزوين، سمعت أبي يقول: "داود بن إبراهيم هذا متروك الحديث كان يكذب، قدمت قزوين مع خالي، فحمَل إلي خالي مسنده، فنظرت في أول مسند أبي بكر رضي الله عنه فإذا حديث كذب عن شعبة، فتركته، وجهِد بي خالي أن أكتب منه شيئا ، فلم تطاوعني نفسي، ورددت الكتب عليه".

داود بن إبراهيم قاضي قزوين هو العقيلي، فقد جاء في التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة للسخاوي أن إمام جامع قزوين جعفر بن محمد بن حماد قال: حدثنا داود بن إبراهيم العقيلي القاضي بقزوين. وجاء في أحد أسانيد ابن عساكر في تاريخ دمشق أن محمد بن أيوب بن يحيى بن الضريس الرازي قال: حدثنا داود بن إبراهيم العقيلي قاضي قزوين قال: حدثنا خالد بن عبد الله الواسطي.
داود بن إبراهيم قاضي قزوين العقيلي هو الواسطي، فقد قال ابن الجوزي في كتاب الضعفاء والمتروكين: داود بن إبراهيم العقيلي الواسطي يروي عن خالد بن عبد الله، قال الأزدي مجهول كذاب.

ومما يؤكد أن داود بن إبراهيم العقيلي هو الواسطي قول الخطيب البغدادي في المتفق والمفترق: "داود بن إبراهيم الواسطي حدَّث عن شعبة". ووجدت رواية داود بن إبراهيم الواسطي عن شعبة في كتاب الغرائب والأفراد للدارقطني، وفي تاريخ أصبهان ومسانيد فراس والحلية كلهن لأبي نعيم الأصبهاني.

قد يقال إن داود بن إبراهيم الواسطي وثقه الراوي عنه أبو داود الطيالسي صاحب المسند!، ولكن الطيالسي هو من أئمة الرواية وليس من أئمة الجرح والتعديل، ثم إن الجرح مقدم على التعديل، لا سيما إذا كان الجرح مفسرا، وأشده أن يكون مفسرا بكذب الراوي، كما هنا.

وقد يقال ذكره ابن حبان في الثقات!، ولكن ابن حبان من المتساهلين، ثم إن ابن حبان قال في كتاب الثقات "داود بن إبراهيم الواسطي سكن البصرة يروي عن طاوس وحبيب بن سالم روى عنه ابن المبارك وأبو داود الطيالسي"، وقد خلط بين داود بن إبراهيم الذي روى عن طاوس وروى عنه ابن المبارك، وهو يماني ثقة، وبين داود بن إبراهيم الذي روى عن حبيب بن سالم وروى عنه أبو داود الطيالسي، وهو واسطي بصري متروك الحديث.
فداود بن إبراهيم الواسطي متروك الحديث متهم بالكذب.
فإذا كان داود بن إبراهيم الواسطي الواردُ في السند هو المتهمَ بالكذب فالسند تالف، وإن كان غيرَه فالسند لا بأس به، وإذا وقع الشك فأقل الواجب هو التوقف.


ـ خلاصة الأمر أن هذا الحديث بفقراته الثلاثة الأول "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم تكون ملكا عاضا" صحيح بطرقه، حيث تشهد له الرواية الأولى من حديث حذيفة الجيدة الإسناد، وهي بلفظ "أنتم في نبوة ورحمة وستكون خلافة ورحمة وتكون ملكا عضوضا"، والرواية الثانية منه الضعيفة الإسناد، وتشهد له الطرق الضعيفة من حديث أبي عبيدة بن الجراح، وأن هذه الكلمة التي في آخر الحديث "ثم تكون خلافة على منهاج النبوة" هي مما يجب أن يُتوقف فيه، بسبب الشك في معرفة حال أحد رواة السند وتفرده بها. والله أعلم.

وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 27/ 9/ 1435، والحمد لله رب العالمين. 


الخميس، 7 أغسطس 2014

المرجئة


كثر الكلام عن الإرجاء والمرجئة في هذه الأوقات الصعبة في بلاد الشام، حيث يريد كثير من الناس أن يستبيحوا حرمات المسلمين الأطهار بالقتل والجلد بدعوى أن هؤلاء ليسوا على السنة!!.
من بدع الاعتقاد التي ظهرت في المجتمع الإسلامي في عصر السلف منذ وقت مبكر بدعة المرجئة، وهم فرقة من المسلمين الذين ابتدعوا في العقيدة، وهي من شر الفرق، وبدأ ظهورها في زمن التابعين، فأنكر عليها السلف والخلف أشد الإنكار.
قال ابن تيمية رحمه الله: "قال قتادة: إنما حدث الإرجاء بعد فتنة ابن الأشعث". أي بعد قيام عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وجمعٍ كبير من سادات التابعين رحمهم الله على الحجاج بن يوسف الثقفي سنة 82.
تدل النصوص المنقولة في ذم المرجئة على أنهم تمسكوا بنصوص الوعد وعطلوا نصوص الوعيد، وفسروا الإيمان المنجي من عذاب الله ـ تبعا لذلك ـ بأنه إيمان القلب وإن لم يكن معه عمل!!، كأنهم يرون فعل المأمورات واجتناب المحظورات نافلة من النوافل!!.

وهذه بعض النصوص التي تتبين فيها بدعتهم وإنكار الأئمة عليهم:

ـ روى ابن بطة في الإبانة الكبرى واللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة من طريقين عن أحمد ابن حنبل أنه قال: حدثنا خالد بن حيان قال حدثنا معقل بن عبيد الله العبسي قال: قدم علينا سالم الأفطس بالإرجاء، فعرضه، فنفر منه أصحابنا نفورا شديدا، فحججتُ، فدخلتُ على عطاء بن أبي رباح في نفر من أصحابي، فأخبرته أن قوما قِبَلنا قد أحدثوا وتكلموا وقالوا إن الصلاة والزكاة ليستا من الدين، فقال: أوَليس الله عز وجل يقول {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة}؟!، فالصلاة والزكاة من الدين. فقلت: إنهم يقولون ليس في الإيمان زيادة، فقال: أوَليس قد قال الله فيما أنزل {ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم}؟!. قال: ثم قدمتُ المدينة فجلست إلى نافع، فذكرت له قولهم، قلت إنهم يقولون: نحن نقر بأن الصلاة فريضة ولا نصلي، وأن الخمر حرام ونحن نشربها، وأن نكاح الأمهات حرام ونحن نفعل ذلك. فنتر يده من يدي وقال: من فعل هذا فهو كافر. هذا وقد نقل ابن تيمية هذا النص عن ابن حنبل مع الإقرار. [خالد بن حيان الرقي صدوق ثقة فيه لين مات سنة 191. معقل بن عبيد الله العبسي حراني صدوق ثقة فيه لين مات سنة 166]. فالسند لا بأس به.
عطاء بن أبي رباح من سادات التابعين بمكة، مات سنة 114.
قف عند قول أولئك المرجئة "إن الصلاة والزكاة ليستا من الدين".
قد يقول قائل: إن نافعا كفرهم في هذا النص المنقول فهل هم كفار؟!. أقول: من كان عنده الحد الأدنى من الإيمان ولم يعمل حسنة قط فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يخرجه من دائرة الإيمان، ولكن الحد الأدنى من الإيمان يقتضي أن يكون في القلب تعظيم لله وخضوع لأمره وإن لم يتحقق العمل في الواقع، والذين كفرهم نافع رحمه الله يظهر من طريقة كلامهم أنهم مستكبرون على الله وليس في قلوبهم تعظيم له ولا خضوع، فلهذا كفرهم.

ـ وروى إسحاق بن راهويه في مسنده عن العلاء بن عبد الجبار عن نافع بن عمر الجمحي عن ابن أبي مليكة أنه قال: يقولون إيمان فلان كإيمان فلان!، أترون إيمان فهدان مثل إيمان جبريل؟!. وكان فهدان رجلا متهما بالشراب. [العلاء بن عبد الجبار صدوق. نافع بن عمر الجمحي ثقة ثبت].
ابن أبي مليكة هو عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة مكي من ثقات التابعين وخيارهم، مات سنة 117.
ـ ومما يدل على استهانة المرجئة بأمر المعاصي ما رواه أبو داود الطيالسي والبخاري في صحيحه وأبو نعيم في المستخرج على صحيح مسلم عن شعبة عن زبيد اليامي أنه أتى أبا وائل شقيقَ بن سلمة لما ظهرت المرجئة يشكو له الحال، فروى له عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سباب المؤمن فسق وقتاله كفر". قال ابن حجر في فتح الباري: وعُرف من هذا مطابقة جواب أبي وائل للسؤال عنهم، كأنه قال كيف تكون مقالتهم حقا والنبي صلى الله عليه وسلم يقول هذا؟!.
أبو وائل شقيق بن سلمة كوفي من ثقات التابعين وخيارهم، مات سنة 83.


ـ وروى الطبري في تهذيب الآثار من طريق سلام بن أبي مطيع أنه قال: سمعت أيوب وعنده رجل من المرجئة، فجعل الرجل يقول: إنما هو الكفر والإيمان. وأيوب ساكت، فأقبل عليه أيوب فقال: أرأيت قول الله تعالى {وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم} أمؤمنون أم كفار؟!. فسكت الرجل، فقال له أيوب: اذهب فاقرأ القرآن، فقلَّ آية في القرآن فيها ذكر النفاق إلا أخافها على نفسي. [سلام بن أبي مطيع بصري ثقة فيه لين].
يدل هذا النص على أهم مداخل الشبهة إلى فكر المرجئة، وهو توهمهم أن الاعتقاد هو أحد قسمين على معنى التمام والكمال!، فالمرء عندهم إما مؤمن تام الإيمان أو كافر تام الكفر، وحيث إن المؤمن المرتكب للمعاصي ليس كافرا تام الكفر فهو ـ عندهم ـ مؤمن تام الإيمان!!.
وقد أشار أيوب بن أبي تميمة السختياني في جوابه إلى قول الله تعالى {إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون}،... {لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون}،... {وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم}،... {وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم}، وسأل أيوب ذلك القائلَ عن هؤلاء أمؤمنون هم أم كفار؟!، فلم يجد الرجل أمامه سوى السكوت، حيث إن في تلك الآيات القرآنية الكريمة النصَّ الواضح البين على أن الذين اعترفوا بذنوبهم وقد خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فأولئك عسى الله أن يتوب عليهم، ولو كانوا كافرين لما دخلوا تحت المشيئة.


ـ وقال الخلال في كتاب السنة: قال عبد الملك: قلت لأبي عبد الله أحمد ابن حنبل: فإذا كان المرجئة يقولون إن الإسلام هو القول؟!. قال: هم يصيِّرون هذا كله واحدا، ويجعلونه مسلما ومؤمنا شيئا واحدا على إيمان جبريل ومستكملَ الإيمان. قلت: فمن ههنا حجتنا عليهم؟. قال: نعم. [عبد الملك بن عبد الحميد بن مهران الميموني الرقي ثقة مات سنة 274].
يظهر من هذا النص أن اعتراض الإمام أحمد على المرجئة هو لأنهم يصيِّرون أمر الدين كله واحدا ويجعلون المصدق بالدين مسلما ومؤمنا وعلى إيمان جبريل ومستكملَ الإيمان.

ـ وروى الخطابي في كتاب الغنية عن الكلام وأهله من طريق إسحاق بن راهويه أنه قال: قدم ابن المبارك الري، فقام إليه رجل من العباد، الظن أنه يذهب مذهب الخوارج، فقال له: يا أبا عبد الرحمن ما تقول فيمن يزني ويسرق ويشرب الخمر؟. قال: لا أخرجه من الإيمان. فقال: يا أبا عبد الرحمن على كبر السن صرتَ مرجئا؟!. فقال: لا تقبلـُني المرجئة، المرجئة تقول حسناتنا مقبولة وسيئاتنا مغفورة، ولو علمتُ أني قـُبلتْ مني حسنة لشهدتُ أني في الجنة. ثم ذكر عن أبي شوذب عن سلمة بن كهيل عن هُزيل بن شرحبيل أنه قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو وُزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح. [أبو شوذب عبد الله بن شوذب بلخي بصري مقدسي صدوق ثقة. سلمة بن كهيل ثقة مات سنة 121. هزيل بن شرحبيل كوفي ثقة مات قرابة سنة 85، وروايته عن عمر مرسلة]. وروى ابن راهويه في مسنده ومحمد بن نصر في تعظيم قدر الصلاة نحوا من ذلك.

ـ وقال ابن خزيمة في كتاب التوحيد: "الغالية من المرجئة التي تزعم أن النار حُرمت على من قال لا اله إلا الله". وقال: "المرجئة توهمت أن مرتكب الذنوب والخطايا كامل الإيمان".

ـ وروى ابن شاهين في شرح مذاهب أهل السنة عن سفيان الثوري أنه قال: اتقوا هذه الأهواء المضلة. قيل له: بين لنا رحمك الله. فقال: أما المرجئة فيقولون: "الإيمان كلام بلا عمل!، من قال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله فهو مؤمنٌ مستكمل الإيمان على إيمان جبريل والملائكة وإن قتـَل كذا وكذا!، مؤمنٌ وإن ترك الغسل من الجنابة وإن ترك الصلاة!". والظاهر أنه ينكر قولهم "مؤمنٌ وإن ترك الغسل من الجنابة وإن ترك الصلاة" على معنى أنه مؤمن مستكمل الإيمان.

ـ وقال ابن الجوزي في كتاب تلبيس إبليس: [قالت المرجئة إن من أقر بالشهادتين وأتى بكل المعاصي لم يدخل النار أصلا، وخالفوا الأحاديث الصحاح في إخراج الموحدين من النار، قال ابن عَقيل: "ما أشْبهَ أن يكون واضعُ الإرجاء زنديقا، فإن صلاح العالم بإثبات الوعيد واعتقاد الجزاء، فالمرجئة ـ لما لم يمكنهم جحد الصانع لما فيه من نفور الناس ومخالفة العقل ـ أسقطوا فائدة الإثبات، وهي الخشية والمراقبة، وهدموا سياسة الشرع، فهم شر طائفة على الإسلام"]. وقال ابن الجوزي: "وفي ذلك الزمان حدثت فتنة المرجئة حين قالوا لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة".

ـ وقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى: "فلهذا عَظـُم القول في ذم الإرجاء، حتى قال إبراهيم النخعي: لفتنتـُهم أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة. وقال الزهري: ما ابتـُدعت في الإسلام بدعة أضر على أهله من الإرجاء. وقال الأوزاعي: كان يحيى بن أبي كثير وقتادة يقولان ليس شيء من الأهواء أخوفَ عندهم على الأمة من الإرجاء. وقال شريك القاضي: هم أخبث قوم، حسبك بالرافضة خبثا، ولكن المرجئة يكذبون على الله. وقال سفيان الثوري: تركت المرجئة الإسلام أرق من ثوبٍ سابـِري". قال المُطرِّزي في المُغْرب: والسابـِريّ ضرْب من الثياب يُعمل بِسابور، موضعٍ بفارس، وعن ابن دريد: ثوب سابـِريٌّ: رقيق.
وقال ابن تيمية: "قالت المرجئة على اختلاف فرقهم: لا تذهِب الكبائرُ وتركُ الواجبات الظاهرة شيئا من الإيمان، إذ لو ذهب شيء منه لم يبق منه شيء، فيكون شيئا واحدا يستوي فيه البر والفاجر".
وقال: "أهل السنة في باب الأسماء والأحكام والوعد الوعيد وسط: بين الوعيدية الذين يجعلون أهل الكبائر من المسلمين مخلدين في النار ويخرجونهم من الإيمان بالكلية ويكذبون بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وبين المرجئة الذين يقولون إيمان الفساق مثل إيمان الأنبياء والأعمالُ الصالحة ليست من الدين والإيمانِ ويكذبون بالوعيد والعقاب بالكلية".
وقال: "المرجئة يقولون الإيمان بعض الإسلام والإسلام أفضل، ويقولون إيمان الناس متساو، فإيمان الصحابة وأفجر الناس سواء".
وقال: "المرجئة غلطوا من ثلاثة أوجه: أحدها: ظنهم أن الإيمان الذي في القلب يكون تاما بدون العمل الذي في القلب كمحبة الله وخشيته وخوفه والتوكل عليه والشوق إلى لقائه، والثاني: ظنهم أن الإيمان الذي في القلب يكون تاما بدون العمل الظاهر، وهذا يقول به جميع المرجئة، والثالث: قولهم كل من كفره الشارع فإنما كفره لانتفاء تصديق القلب بالرب تبارك وتعالى".
وقال: "سائر طوائف المسلمين من أهل الحديث والفقهاء وأهل الكلام من مرجئة الفقهاء والكرامية والكـُلابية والأشعرية والشيعة مرجئهم وغير مرجئهم يقولون إن الشخص الواحد قد يعذبه الله بالنار ثم يدخله الجنة، كما نطقت بذلك الأحاديث الصحيحة، وهذا الشخص الذي له سيئات عُذب بها وله حسنات دخل بها الجنة وله معصية وطاعة باتفاق: فإن هؤلاء الطوائف لم يتنازعوا في حكمه، لكن تنازعوا في اسمه، فقالت المرجئة جهميتهم وغير جهميتهم هو مؤمن كامل الإيمان، وأهل السنة والجماعة على أنه مؤمن ناقص الإيمان ولولا ذلك لما عُذب".
ومن الغريب أن يقول إن طوائف المسلمين من أهل الحديث والفقهاء وأهل الكلام ـ بما فيهم المرجئة ـ يقولون إن الشخص الواحد قد يعذبه الله بالنار ثم يدخله الجنة، كما أن هذا الشخص الذي له سيئات عُذب بها وله حسنات دخل بها الجنة فإن هؤلاء الطوائف لم يتنازعوا في حكمه لكن تنازعوا في اسمه!. أي إن كل الردود على المرجئة المبتدعة مع الطعن والتسفيه والتحذير إنما كانت بسبب التنازع في مجرد تسمية فقط!، ولعل الشيخ كان قد نسي ـ حين كتابة هذه الأسطر ـ ما كان عندهم من بدع الاعتقاد.
ومن الغريب كذلك أن يقول: "المرجئة لا تنازع في أن الإيمان الذي في القلب يدعو إلى فعل الطاعة ويقتضي ذلك والطاعة من ثمراته ونتائجه، لكنها تنازع هل يستلزم الطاعة؟ فإنه وإن كان يدعو إلى الطاعة فله معارض من النفس والشيطان، فإذا كان قد كـُرِّه إلى المؤمنين المعارضُ كان المقتضي للطاعة سالما عن هذا المعارض"!. ولا يجد الإنسان ـ في باب تحسين الظن هنا ـ إلا أن يقول لعل الشيخ قد اعتراه النسيان.

* الشبهة التي جعلت بعض الناس يدخِلون مَن ليسوا من المرجئة في اسم المرجئة:

ـ المرجئة يقولون بأن المؤمن المرتكب للمعاصي مؤمن تام الإيمان، بمعنى أن فعل الطاعات وترك المعاصي هو نافلة من النوافل، ولذا فقد رد عليهم الأئمة وبينوا ضلالهم، وبينوا أن المؤمن المرتكب للمعاصي هو مؤمن ناقص الإيمان، وكان مما تمخضت عنه حركة الابتداع هذه والرد عليها ـ عند بعض المتحمسين للرد ـ أن من قال بأن العمل ليس جزء من الإيمان فهو مرجئ!!.
وربما يستندون لبعض الأقوال المروية عن بعض العلماء، ومن ذلك ما رواه الطبري في تهذيب الآثار عن ابن عيينة والفضيل بن عياض أن المرجئة يقولون إن الإيمان قول بلا عمل، وقد روى ابن أبي يعلى كذلك في طبقات الحنابلة ـ بسند فيه مجاهيل ـ عن أحمد ابن حنبل أنه قال: من زعم أن الإيمان قول بلا عمل فهو مرجئ.
أقول: الذي أخرجَ العمل من دائرة الدين هو مرجئ، هذا مقطوع به، وآيات القرآن الكريم ونصوص السنة النبوية طافحة بوجوب امتثال الأوامر واجتناب المناهي مع التحذير من عقوبة المخالف، والذي قال بأن العمل هو ركن أساسي في الدين وهو من الإسلام ومن ثمرات الإيمان وإن لم يكن جزء منه: فهذا ليس بمرجئ، والخلاف هنا في التسمية، إما أن نقول إن العمل جزء من الإسلام أو من الإيمان، ولكن القول بأن العمل جزء من الإسلام لا من الإيمان هو ما جاء في جواب النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام عندما جاء ليعلم الناس دينهم.
* إذا عُلم هذا فإني لا أعلم أن أحدا من الأشاعرة أو الماتريدية يقول إن الصلاة والزكاة ليستا من الدين، أو إن حسناتِنا مقبولة وسيئاتِنا مغفورة، أو إن الإيمان الذي في القلب يكون تاما بدون العمل الذي في القلب كمحبة الله وخشيته وخوفه والتوكل عليه، أو إن مرتكب الذنوب والخطايا كامل الإيمان على معنى أنه ينجيه من عذاب الله، كما لا أعلم أن أحدا منهم يكذب بالوعيد والعقاب الذي أعده الله للفساق، فمن قال عن الأشاعرة أو الماتريدية إنهم مرجئة فقد قال قولا باطلا واحتمل إثما بينا.


وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 6/ 10/ 1435، والحمد لله رب العالمين.



تكفير من لا يستحق التكفير -

المؤلف: د. صلاح الدين الإدلبي

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سييدنا محمد خاتم النبيين، والمبعوث رحمة للعالمين، وعل آله وأصحابه والتابعين بإحسان إل يوم الدين.
فكنت قد وقفت ـ منذ زمن بعيد ـ على كلام لأحد الباحثيين يتحدث فيه عن جوانب من موضوع التكفير، ووجدت أنه لابد من كتابة بعض التعليقات حول إيغاله في التكفير واستدلاله بما لا دليل له فيه، فكتبت هذا البحث منذ أكثر من ثمانية عاشرعاما قمريا، وسميته في ذلك الوقت " التحذير مما اشتبه عل المتسرعين في التكفير" .
رأى بعض الإخوة اليوم ـ في خضم انتشار الهجمة الفكرية التكفيرية ضرورة نشره الآن فهأنذا أستجيب لطلبهم واقدمه للنشر باسمه الجديد : (تكفير من لا يستحق التكفير) راجياً من المولى القدير أن يتقبل منا جميعاً بفضله وكرمه.